"…… تباد"، املأ الفراغ بالكلمة المناسبة. فكّر الطالب مليّا، ماذا يجيب على السؤال ليحرز علامة كاملة، أيكتب القدس، بغداد، اليمن، حلب، الغوطة…. وتزاحمت الأسماء عليه حتى تركه فارغا متسائلا: ماذا عسانا فاعلون؟ السؤال المتكرر الرائج عقب كل أزمة أو نكبة أو نكسة أو سمها ما شئت، تمر بها منطقتنا ويدفع فيها الإنسان فاتورةَ تصارعِ الرؤوس الكبيرة التي لا تُلقي له بالا.. هل علينا حقا ملأ الفراغ في كل مرة وتقديم الإجابة؟ وهل ثمة إجابة نموذجية لذلك السؤال؟ وهل تخفف عنا الإجابة وطء الشعور بالعجز والتقصير؟ أم أنها تضعنا في مقام القائم بالواجب ولو بالقليل؟
أسئلةٌ تتجدد في ذهني مع كل معاناةٍ تركب فيها موجة الصراع على ظهر ذاك العاجز الضعيف، وأحاول حينها رسم ملامح وأطر عامة تجيب على ذاك السؤال العام: ماذا بعد؟ وفي المدونة هذه أضع بين أيديكم بعضًا مما فكّرتُ به في سياق التفاعل مع الأزمات والحروب، علّ أحدكم وجد فيها الفائدة في مضمار سيره فأخذ منها. وهي خطابٌ ذاتي قد يسقطه القارئ على شخصه الكريم فيأخذ منه ما يناسبه ويدع الآخر.
في المتابعة الإعلامية أعتمد متابعة التغطية المكتوبة بنسبة تفوق قرينتها المصورة، وفي متابعة المادة المصورة أنتقي ما أتابعه بعيداً عن الصور التي فيها خدش لحرمة الإنسان وخصوصيته |
أعرف نفسي جيداً – من خلال النكبات المضطردة التي نتوارثها- فيما يتعلق بتفاعلها مع لغة الإعلام والصورة، أنها من الناس الذين تثقلهم الصورة ولا تحركهم. فتوصلت لاتفاقٍ ذاتي ينسجم مع دافع العمل والخروج من دائرة الألم والعجز التي كانت تضطرد معي عقب متابعتي لوسائل الإعلام بما فيها من نشرات وصور ما زالت تحفر ذكراها في مخيلتي للآن، بل كانت بعض الصور التي أثارت ألمي وانفعالي لا تبلغ ربع الألم الذي تحمله صور اليوم، لكنّ تكرار المشاهدة يهوّن الفظائع حتى قد يصل البعض لمرحلة الاعتياد التي لا تحرّك فيه شيئًا! وعليه قررتُ ألاّ أدع للإعلام سيطرةً على تحديد وقياس درجة ألمي أو انفعالي، والسؤال هنا: كيف؟
لا أقصر متابعتي على وسيلة إعلامية واحدة. وقاعدتي في ذلك الشك قبل اليقين، لإيماني الجازم بأن الإعلام يختار لنا الزوايا التي يريدها، ويشكل الرأي الذي لا نكون قد ظَنَنَّا يوماً أننا أو أحدا منا قد يتقبله. ومثال ذلك: تأييد حرب تقتل الأبرياء طالما يتحقق منها تحريراً وهكذا.. يضاف إلى ذلك ترتيب الوسيلة الإعلامية لمشاهد الساحة السياسية، إذ ترتّب عنّا أولوية الشعور والاهتمام والتأييد، ومثال ذلك: عرض معاناة شعب أو بلد على حساب آخر.
بعد ذلك ومن مجموع المشاهدات أشكل رؤيتي الخاصة للحدث.
في المتابعة الإعلامية أعتمد متابعة التغطية المكتوبة بنسبة تفوق قرينتها المصورة، وفي متابعة المادة المصورة أنتقي ما أتابعه بعيداً عن الصور التي فيها خدش لحرمة الإنسان وخصوصيته من صور التمثيل والوحشية والأشلاء، وبنسبة أكبر لعروض الصور المرفقة بالأرقام (إنفو جرافيك) والقصص الإخبارية القصيرة.
وهنا أشير إلى ظاهرة عفوية تتمثل في إعادة نشر كل ما تنشره الوسائل الإعلامية، بطريقة أشبه بالدائرة المغلقة علينا التي نتحول فيها إلى وكالات إخبارية تستهدف نفسها، فنعيد إنتاج الألم والوجع بصور أخرى يتضخم ذاتيا بشكل يُفقدنا الأمل في العمل، وهذا ما قد يكون بحاجة لإعادة توجيه بحيث يتم إعادة إنتاج الأخبار للجمهور الآخر الذي لا يعلم، بلغته وأسلوبه. وهذا ينقلني للمساحة الأخرى بعد الشعور وهي الفعل.
ولعل المحور الأساسي هنا هو ميدان الكتابة والتفاعل، وفي ذلك رسمت عددا من النقاط:
1) في الكتابة:
– لا أكتب من أجل الكتابة.
– لا أكتب لأتسق مع إيقاع "التايم لاين" لدي.
– لا أكتب لأثبت لغيري أني مع القضية.
– لا أكتب شيئا لا يقتات مني مثال: أجلس في لمّة حكي وضحك، ومن ثم أضع الوجه الحزين مع آية قرآنية عن المعذبين في الأرض وأني لم أعد أذق معنى النوم وأنا أحلم بوجعهم؛ حالة "الانفصام" تلك التي صنعتها فينا وسائل التواصل الاجتماعي وعلى رأسها الفيس بوك أحاول تجنبها ما استطعت
– أبتعد عن الصور التراجيدية، وإعادة النشر دون فهم وتمحيص. كما وأبتعد عن القوالب المكررة في الجمل والتعازي والاعتراض، ففي المعارك الفِرق كلها تتسلق لتحقيق مساعيها. ومثال ذلك: مقاطع مؤثرة لأصحاب القضية لكن فيها استغلال للأطفال كالحسابات الإلكترونية المنسوبة لهم، أو جمل الانتقاد النمطية المكررة لدى فريق معين في سياق اعتراضه عن تضامن فئة مع (س) مثلا جراء تعرضه لأزمة "أين أنتم عن أهل ص".
– كل ما أشعر أنه سيجعلني أكسب -شخصيا- من وراء ذاك المقهور المظلوم أبتعد عنه ولو كان مجرد #هاشتاغ.
2) في التفاعل:
– أتحاشى الطفرات والهبات المؤقتة ما استطعت ولا أفرّغ كل وقودي فيها.
– النقاشات التي ستسهلك طاقتي، ولا طائل منها، ولا تعدو أكثر من تنفيس أتحاشاها لصالح عمل آخر هو مشروعي.
بماذا ساعدني ذلك؟ أجمل بعضا من النقاط لمستها من تجربة التفاعل مع الحوادث التي ذكرتها آنفا، في هذه النقاط:
– القدرة على القراءة والفهم بصورة أكثر اتساقاً.
– القدرة على التفكير بطرق مساندة وتأثير بصفاء وفعالية أكثر، فالتفكير الإيجابي بالعمل بعيداً عن النقمة غير المثمرة من باب أن العمل الذي يمكننا المساهمة به في الكوارث الإنسانية هو البناء النفسي والاجتماعي لصاحب الهمّ المتضرر من الكوارث جدُّ مهم، وذلك لمساعدته في تخفيض منسوب النقمة التي خلفتها الأحداث في نفسه، ومساعدته في التصالح مع نفسه وبنائها.
وهنا من الضروري أن أذكر أنه لا يوجد تقنين معين لطريقة التفاعل مع الأزمات على المستوى الشخصي، ولا صور ثابتة وتقعيد وتفضيل. وذلك لاختلاف الطبائع ومداخل النفوس، ولكن القاعدة التي من الممكن أن نكون متفقين عليها هي أننا كأفراد في أي عملية تفاعل علينا أن نبحث عن: المدى + التأثير والتفاعل والبناء. وَأَمَّا عن صور العمل فتبدأ من "بوست" تنشره، إلى تبني مشاريع عملية متخصصة في المجال الشخصي في حقول التعليم، والصحة، والفن والموسيقى، والحقوق، والإعلام، واللغات والأدب، إلى المهارات اليدوية المهنية وغيرها من المجالات.
ولأقرّب لكم الصورة أكثر، دعونا نتخيل أنّ كل واحد منا في مجاله -من تلك المجالات التي ذكرتها- توجه بمشروعه الخاص ورسم شكله مع المتضررين اللاجئين من الكوارث والحروب نساءً وأطفالا وشباباً، بدءاً من جلسات عامة تفاعلية وتعليم ما لديه لهم، وبالتواصل مع المؤسسات الاجتماعية الإغاثية المعنية. مع الحرص على قاعدة (التخلية + التحلية+ التعميم) وأعني بهذه القاعدة أن تحرص في مشروعك على التخلية (امتصاص ما خلّفه الحدث في نفس المتضرر، ومساعدته على التخلص من الرواسب السلبية التي أحدثها الحدث في نفسه) ومن ثم التحلية (استبدال تلك الرواسب السلبية بإنتاج إيجابي) مع التعميم في التطبيق (بمعنى ألا تخضع مساعدتنا الإنسانية للخلفيات الأيدولوجية التي تتبع لها الفئة المستهدفة). أما صور التطبيق فهي متنوعة، تبدأ من مادة بحثية، إلى مشروع عملي خيري في مجال تخصصك، إلى جانب المشاريع التقليدية الإغاثية العينية.
يمكنك تطبيق مشروعك من خلال الجمعيات الإغاثية والتنموية منها بشكل خاص. إذ يمكن طرح المشروع عليهم ليتبنوه، أو الإفادة منهم بقاعدة بيانات المستفيدين. وهذه الجمعيات يمكن الحصول على أرقام التواصل معها من الإنترنت حسب الدولة التي تقيم فيها وإن كان فيها متضررين أم لا. ومن الجمعيات والمؤسسات save the children, Islamic relief worldwide, Unicef… وغيرها. في أضيق الحالات يمكنك التواصل عبر الانترنت مع آخرين في بلد فيها متضررين بحيث يكون حلقة وصل بينك وبينهم بتخصيص وقت معين تستثمره معهم بالتواصل الاجتماعي أو تعليم مهارة معينة إلكترونيا، كالتفكير والحوار أو القراءة أو النشيد والغناء…
والأهم قبل كل ذلك وبعده، أن ننظر في كلّ ما نفكر في عمله إلى: المدى (الاستمرارية)+ التأثير والبناء. ولا نفكر بالجوائز التي سنحصدها من على ظهور المستفيدين من المشروع! نحن بحاجة لتوالد أنماط استجابة حقيقية مثمرة، لنتحول بها بعد ذلك من مساحة الاستجابة إلى الفعل الخالص الجمعي البنّاء، الذي يتربع الإنسان على رأس هرمه، قائلا: أنعمتمونا!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.