شعار قسم مدونات

أين الله مما يجري في أقبية سوريا؟

blogs الغوطة

القبو – لمن لا يعرف – ليس ملجأ وإنما ليس أكثر من أربعة جدران من الاسمنت الغير المطلي غالبا يخترقها من أحد الزوايا شباك صغير أو كبير من أجل التهوية مجهز أحيانا بقليل من الإنارة يستخدمه السوريون غالبا كمستودع لتخزين البضائع من قبل التجار أو توضع فيه قطع الأثاث البالية أو ما يريد سكان العمارة الاحتفاظ به خارج منازلهم. في إحدى زوايا هذا القبو وعلى أرضيته الباردة جلست عجوز ستينية لم تتناول أدوية الضغط والسكري خاصتها منذ أكثر من شهر لتقبل عليها حفيدتها الصغيرة يتيمة الأبوين فتقول لها "ستي بدي فوت ع التواليت" بمعنى آخر تريد أن تعرف أين يمكن لها أن تقضي حاجتها فالقبو كما ذكرت ليس فيه مصدر مياه وغير مجهز بأنابيب للصرف الصحي والخروج منه إلى السطح هو إيذان بأنك مستعد للموت.

قد يكون تفصيلا صغيرا ولكنه مشكلة كبيرة لهذه الجدة ولباقي سكان العمارة الذين ضاق بهم وبأطفالهم هذا القبو فضلا أن يتسع لجيرانهم في الحي والذين تهدمت عمارتهم "فلجؤوا" لهذا "القبو" ولاسيما أن برودة الطقس وانعدام وسائل التدفئة جعلت الكبار قبل الصغار يشعرون برغبة ملحة للتبول المتكرر أكثر من المعتاد في قبو آخر وبعد يومين من المكوث بلا طعام أو شراب تظن الأمهات اللواتي تعبن من تصبير أولادهن على الجوع أن الفرج قد أتى بقدوم أحد رجال المنظمات الإغاثية ومعه بعض الوجبات الغذائية لسد الرمق لا أكثر.

يقسم هذا المتطوع أن الوجبة ليست أكثر من ١ كغ من الرز المطبوخ توزع على 12 شخص وأنهم أثناء التوزيع على بعض الأقبية المكتظة يضطر أحيانا لإعطاء وجبتين او ثلاث ويقول بصوت مخنوق "أطعموا الأطفال فقط" ويمضي تلاحقه نظرات الأمهات وكبار السن دون أن ينبس أحد منهم ببنت شفة فهم يعلمون أن طلب وجبة أخرى يعني حرمان قبو آخر كما أنهم يريدون استغلال هذه الساعة من الهدوء النسبي ومساعدة الرجل في توزيع الطعام على أكبر عدد ممكن من الأقبية قبل أن يشتد القصف مرة أخرى وتنعدم إمكانية الحركة فإصابة سيارة الإغاثة بما تحمله تعني خسارة الجميع، نعم الجميع لان الجميع تعاهدوا على الحفاظ على حياة الأطفال قبل كل شيء و قد قال الرجل هذا حرفيا في إحدى مناشداته لمن هم في الخارج – أي لنا – حيث قال مبررا عجزنا: "ما بدنا منكن كتير بس شي يخلي ولادنا عايشين وعم بوحدوا الله".

سنة الله في التغيير والأحداث التاريخية المفصلية أنها تستغرق وقتا وما ذلك إلا لحكم كثيرة كتصفية الصفوف وتمايزها وتنقية الساحة من المنافقين والمرجفين

أيضا تحت الأرض ولكن هذه المرة في أحد المشافي التي سمحت لها هذه "الميزة" أن تنجو من الذي حل بمثيلاتها اللواتي كن فوق الأرض يخرج الدكتور حسام من غرفة العمليات بعد أكثر من 24 ساعة من العمليات الجراحية المتتالية طمعا ببضعة أنفاس خالية من رائحة الدم فيتمنى أنه ما خرج كيف لا وبقع الدماء التي أراد أن يرتاح منها لوهلة تلاحق نظره أينما حل بل إنها خارج غرفة العمليات أشد قسوة إذ يزيد بشاعتها سماع الآهات والأنات والصيحات والدعوات التي يطلقها الناس وهم يبكون جرحاهم الذين ملؤووا ممرات المشفى قبل غرفه ليجعلوا طريقه إلى باب المشفى طويلا جدا من هول ما رآه من شتى أنواع الإصابات الحربية التي يمكن تخيلها ومعظمها من الأطفال والنساء ولكنه أخيرا استطاع أن يرى النور ويخرج من المشفى.

هناك لم يكن الوضع أحسن حالا من الداخل أعداد كبيرة من الناس تبكي وتنوح وتلهج بالدعاء وهي تجهز الشهداء – أو ما تبقى منهم – للدفن، بعض الناس الذين كانت إصاباتهم خفيفة نوعا ما وعولجوا منها يجلسون على الأرض ولا يعرفون أين يذهبون بأنفسهم بعد أن أحال القصف منازلهم أكواما من التراب الذي ترك آثاره على ثيابهم ووجوههم فيقرر الدكتور حسام العودة إلى غرفة العمليات ليكتفي بصورة دامية أيضا.. ولكنها على الأقل صامتة. هذه المواقف وغيرها من صور الظلم والقهر التي يعيشها السوريون يوميا على مرأى ومسمع العالم المتحضر المنافق أجمع وفي ظل العجز الذي تعيشه الأمة وخذلان حكامها وملوكها لها جعلت الكثيرين يسألون بصوت لا يخلو من نبرة مشككة "أين الله مما يحدث في سوريا".

لا أخفيكم أن هذا السؤال يخطر على بالي أنا أيضا فالكرب عظيم والصورة كالحة السواد لدرجة تجعل من هكذا أسئلة تلح على أفكارنا إلحالحا لا يقبل الدفع ولكن إذا أردنا أن نكون منطقيين فعلا فلا أعتقد أن الإلحاد سيكون حلا للمشكلة فالملحدين أمثال لينين وستالين وغيرهم فعلوا بالعالم ربما ما هو أسوأ بل إن الإلحاد كفكر مجرد عن ممارسات هؤلاء الملحدين عاجز أكثر عن تقديم الإجابات على الأسئلة المتعلقة بمصير الكثير من الظلمة والمجرمين الذين يموتون دون محاكمة أو عقاب على ما اقترفوه في هذه الدنيا في حين أن الدين يتوعدهم بالعذاب الشديد في الآخرة حتى ولو أفلتوا من العقوبة في هذا العالم الساقط.

 

بل إني أعتقد أحيانا أن عدالة الدنيا حتى في حال تحقيقها ليست كافية فأقصى عقوبة يمكن أن تنزلها بمجرم قتل إنسانا أن تحكم عليه بالقتل أيضا وهذا قد يكون عادلا في نظري إذا كان المقتول لا يملك عائلة أو أصدقاء وهي حالة شبه معدومة وإلا فما الذي ستجنيه أم ثكلى أو زوجة مكلومة أو طفل يتيم أو صديق مفجوع من إعدام القاتل هذا إذا افترضنا أن القاتل قتل شخصا واحدا فما بالك بمن قتل آلافا مؤلفة من الأطفال والنساء قبل الرجال فأعتقد أن عدالة الآخرة – التي ينكرها الملحدون – بالحكم عليه بالعذاب الأبدي أكثر منطقية حتى أو على الأقل تبعث الطمأنينة في روح من فقدوا أحباءهم على خلاف التصور الإلحادي بأنه مات ومضى وقضي الأمر وليس ثمة حساب أو عقاب. 

سؤال "أين الله مما يحدث في سوريا" يجعلنا نتساءل أيضا لماذا سوريا تحديدا؟ أقصد أن مآسي الأمة وللأسف كثيرة جدا من اليمن إلى أراكان مرورا بالقدس والقائمة تطول لكنني أعتقد أن الذي جعل هذا التساؤل عن وجود الذات الإلهية ملحا أكثر في الحالة السورية هو ما جاء في الشام دون سواها من نصوص وآثار دينية تتحدث عن فضلها وبركتها وتكفل الله عز وجل بحفظها وعنايتها والجواب هنا أن نتفكر في عدم سؤالنا لأنفسنا أين كان الله من فرعون الذي سام قومه صنوف العذاب أربعين عاما قبل بعثة موسى بل وبعدها أيضا حتى اضطر موسى نفسه أن يفر من بطشه؟ نحن لا نسأل هنا "أين الله" لأننا نعلم سلفا ما آلت إليه القصة في النهاية من تمكين الله لعباده المؤمنين ونصرته لهم.

انشغالنا بالسؤال عن وجود الإله واستخلاص الحكم مما يحدث وانتقاد العابثين من حولنا وجلد ذواتنا والتشكي من ضعف إمكانياتنا ستجعل علينا عبئا إضافيا يضاف لكتلة السواد التي تحاول أن تخمد جذوة الأمل
انشغالنا بالسؤال عن وجود الإله واستخلاص الحكم مما يحدث وانتقاد العابثين من حولنا وجلد ذواتنا والتشكي من ضعف إمكانياتنا ستجعل علينا عبئا إضافيا يضاف لكتلة السواد التي تحاول أن تخمد جذوة الأمل
 

ولكن رب سائل يسأل "وهل علينا نحن أن ننتظر أربعين سنة أيضا" والجواب "ليس بالضرورة ولكن ربما فالثورة الفرنسية التي يعتبرها الكثير من المؤرخين نقطة البداية لما يعيشه الغرب اليوم من حضارة مزعومة استمرت عشرة أعوام ونبينا صلى الله عليه وسلم مكث وأصحابه في مكة ثلاثة عشر عاما تفنن فيها كفار قريش بقتلهم والتنكيل بهم قبل أن يمكن الله لهم في المدينة ونبي الله نوح لبث في قومه الف سنة الا 50 عاما قبل أن ينصره الله عليهم فسنة الله في التغيير والأحداث التاريخية المفصلية أنها تستغرق وقتا وما ذلك إلا لحكم كثيرة كتصفية الصفوف وتمايزها وتنقية الساحة من المنافقين والمرجفين – ولا يخفى على أحد الخلافات التي تشهدها الأرض السورية إلى الآن بين أبناء الفريق الواحد قبل الأعداء – ويأس الناس من كل المنظمات الدولية والهيئات الأممية وتوحيد صفوفهم وعودتهم إلى ربهم وافتقارهم إليه وغيرها من الحكم التي لا مجال لبسطها هنا 

بعد كل هذا تسألني "ما الذي علي فعله حتى مجيء هذا التمكين الذي تتحدث عنه؟" والجواب أنك بهذا السؤال بدأت بحل المشكلة دون أن تدري فهذا هو السؤال الأوحد والوحيد الذي علينا أن نشغل أنفسنا به للخلاص مما نحن فيه قبل أن نشغل أنفسنا بالسؤال عن وجود الإله واستخلاص الحكم مما يحدث وانتقاد العابثين من حولنا وجلد ذواتنا والتشكي من ضعف إمكانياتنا وغير ذلك من الأمور التي لن تغير شيئا على الأرض بل على العكس ستجعل منك عبئا إضافيا يضاف إلى كتلة السواد التي تحاول أن تخمد جذوة الأمل في البقية الباقية على قلتها وتفت في عضدها إنه السؤال الذي إن أجبت عليه فستكون حقا من الذين ساهم في التخفيف من مأساتهم (ماذا علي أن "أفعل" من أجلهم؟).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.