شعار قسم مدونات

أطفال تحت الموت

blogs أطفال الغوطة

عندما نتكلم عن الطفولة فإننا نستحضر ذلك المشهد الوردي من البراءة والسعادة التي ترتسم على وجوه الأطفال في لعبهم ومرحهم وهم بين أحضان والديهم، حتى إننا لنسمع تلك الموسيقى الرائعة من ضحكاتهم، لتدخل قلوبنا فتتراقص مع نغماتها المنسجمة مع إنسانيتنا، ولتنعكس على وجوهنا مهما كنا عبوسين أو مقهورين ابتسامة عفوية لا نملك إخفاءها. في كلماتي السابقة تجدون تناسقا وانسجاما في المعاني، حتى لو استخدمت لغاتٍ أخرى فالمعنى لا يمكن أن يتغير، ولكن ثمة أمر يمكن أن يغير مدلول الكلمات ويقلبها رأسا على عقب، فقط إذا غيرنا المنطقة التي نقطن فيها الآن، وأكتب مقالتي وأنا أعيش لحظاتها.

الغوطة الشرقية في ريف دمشق حيث تتغير المفاهيم ويتحول مدلول الكلمات، فهنا من الطبيعي أن ترى الطفولة مقرونة بالبؤس والربيع مقرونا بالخوف، وحتى فرحة انتظار مولودك الجديد تتحول إلى ألم ومعاناة. لقد مررنا في الغوطة الشرقية بأيامٍ لا يمكن وصفها من شدة ألمها ومعاناتها، ولكن ما استوقفني هو تلك الطفولة التي لم ترَ من الحياة سوى القصف والدمار والجوع، طفولةٌ ولدت تحت الموت وعاشت في معاناته، هذه ليست رواية تراجيدية مبتذلة، بل واقعٌ يعيشه آلاف الأطفال، وأحاول تصويره للقارئ ليعيش معنا جزءا من مأساة القرن الواحد والعشرين، ولكن مهما امتلكت من أسلوب لغوي لا يمكن للكلمات التعبير عن واقع الحال، ولذلك سأترك للقصة دورها في تصوير المشهد.

في لحظات قليلة جدا من حيث الزمن، ولكنها كابوس طويل نمضيه حتى نصل من منزلنا في الطابق الثاني إلى القبو المجاور مع طفليّ وزوجتي هروبا من جحيم الطيران الحربي وراجمات الصواريخ وهي ترمي حممها

أبدأ من لحظة الولادة، هذه المحطة المؤثرة في حياة الزوجين وهما ينتظران استقبال طفلٍ تكوّن من جسديهما واختلطت روحه بالحب الممزوج بينهما، ولكن هنا في أرض الغوطة الصابرة لهذه اللحظة حال مختلف. فلك أن تتخيل مشهد زوجةٍ في ساعات الحمل الأخيرة تعيش يومها في قبو البناء المظلم الذي تسكنه عائلات الحي خوفا من قصف الطائرات وصواريخ التدمير الحاقدة، والتي ما إن تنزل على بناءٍ حتى تجعله أثرا بعد عين، هذه الزوجة لا تكاد تسمع صوت أنينها من شدة هدير الطائرات فوقها، من صواعق الصواريخ المنهمرة على الأبنية المحيطة بها، لا يمكن لك الحراك حتى لتقضي حاجتك أو تشرب كوب ماءٍ إن وجد.

 

هنا لا ينظر الزوج إلى فرحة الوليد، بل همه في إنقاذ الزوجة من ألمها، نعم حتى الطفل لم يعد من الأولويات في هذا المشهد، لك أن تتخيل الطرقات إلى النقاط الطبية المستهدفة بالقصف بشكل شبه لحظي، وأن تفكر كيف لك إيصال زوجتك لتلك النقطة علّك تنقذ حياتها قبل حياة صغيرها التي لم تبدأ، هنا يكون التصرف دون تفكير، ويزداد الطلق إيذانا بلحظة الولادة، ويخرج الطفل إلى الحياة بدون مقوماتها، فهو تحت الأرض بلا ضوء ولا هواء نظيف، ولا حتى عناية طبية سوى العناية الإلهية التي لم تفارقنا، هذه الولادة لم تكن مجرد خروج طفل من رحم أمه إلى الحياة، بل هي ولادة جيلٍ من رحم الألم وظلام القهر إلى حياة المواجهة والإصرار والثبات، هذا المشهد يمثل صمودنا رغم عمق الألم، ويعبر عن حجم الظلم الذي نحياه وحجم التحدي الذي نبذل. ولد الطفل ولكن لم يبصر نور الشمس بسبب دخان الطائرات والقنابل، ولكنه رأى قسوة العالم وهمجيته وانحطاط إنسانيته.

مشهد آخر من تحت الأرض

ابنتي الصغيرة ذات الثلاثة أعوام تسألني في كل لحظة: بابا متى سنذهب إلى منزلنا في الأعلى؟ أنا لا أحب هذا المكان "تحت الأرض"، أريد أن أرى استيقاظ الشمس ونومها، بابا أنا لا أحب الطائرة والقذائف، متى تنتهي هذه الأصوات، إني أخاف على ريمي "لعبتها" من أن تستيقظ!

في لحظات قليلة جدا من حيث الزمن، ولكنها كابوس طويل نمضيه حتى نصل من منزلنا في الطابق الثاني إلى القبو المجاور مع طفليّ وزوجتي، هروبا من جحيم الطيران الحربي وراجمات الصواريخ وهي ترمي حممها بمعدل 150 صاروخا في ثلاث دقائق، تتساقط على الأبنية وفي الشوارع كالمطر، وما إن نصل بوابة القبو المظلم حتى ننطق بالحمد على سلامتنا، وكأننا اجتزنا الصراط في يوم الحشر ومن تحته جهنم، وها نحن ندخل إلى جنة بسلام آمنين.

 في هذه الأرض شعب يحب الحياة بكرامة وحرية كما تحبون أنتم أطفالكم، ويبذلون لأجلها أغلى ما لديهم، حتى أطفالُهم يبذلون ويضحون بأجمل مراحل الحياة
 في هذه الأرض شعب يحب الحياة بكرامة وحرية كما تحبون أنتم أطفالكم، ويبذلون لأجلها أغلى ما لديهم، حتى أطفالُهم يبذلون ويضحون بأجمل مراحل الحياة "الطفولة" لكي يكون لنا كرامة نحياها وحرية نمارس من خلالها بناء المجتمع
 

هنا يتعارف أطفال الحي على بعضهم البعض ويتسامرون ويقصون حكايا الخوف التي عاشوها وكأنها حكايات عالمية من نسج الخيال، لك أن تراقب المشهد والطفلة تصور لصديقتها أحداث انهيار المبنى فوق رؤوسهم وكيف نجوا من تحت الركام، وهي تحكي لها من نسج خيالها عن معاناة الحصول على رغيف الخبز وتدعوها للعب دور الجريح والمسعف كما تراها مخيلتها، فهي تعيش الحال بشكل يومي.

لن أحدثك عن الضوء الخافت في هذا الظلام، ولا عن ارتجاج الأرض عند سقوط البراميل والصواريخ المتفجرة، ولا حتى عن الغبار والدخان الذي تستنشقهُ أنفاسهم الطيبة والرعب الذي يكسرون حدته بألعابهم وصراخهم وضحكاتهم الممزوجة بالحرمان، فقد يكون أطفالك بانتظارك الآن، ولكن أختم حكايتي بأن في هذه الأرض شعبا يحب الحياة بكرامة وحرية كما تحبون أنتم أطفالكم، ويبذلون لأجلها أغلى ما لديهم، حتى أطفالُهم يبذلون ويضحون بأجمل مراحل الحياة "الطفولة" لكي يكون لنا كرامة نحياها وحرية نمارس من خلالها بناء المجتمع، فلا تظن صديقي القارئ أمام هذه المشاهد المؤلمة أن هؤلاء الأطفال خسروا حياتهم، على العكس هم الآن يصنعون بعناية الله ورعايته ليكون لهم المجد في الأيام القادمة، ولكن انظر أنت إلى حياتك وبأي شيء تضحي لأجل أمتنا وكرامتنا.

وأوصيك أن تقبل أطفالك قبلة وتخبرهم أنها من أطفالي الذين أعيش معهم الآن في الملجأ تحت الأرض، وهم ينتظرون اللحظة التي يلتقون بهم ليحدثوهم عن مغامراتهم وتضحياتهم وأنهم يرسمون بأناملهم الصغيرة تاريخنا المشرق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.