شعار قسم مدونات

التعليم المغربي.. صراع على مادة الفلسفة

مدونات - الفلسفة 1
عاد تدريس مادة الفلسفة في التعليم ما قبل الجامعي إلى دائرة النقاش مرة أخرى في المغرب على إثر تداول أخبار عن حذف الحكومة التي يقودها حزب إسلامي، مادة الفلسفة من امتحانات الباكالوريا. ورغم صدور توضيح ملتبس من الناطق الرسمي باسم الحكومة، إلا أن ذلك لم يزد الأمر إلا التباسا، مما سيبقي النقاش مفتوحا. والحقيقة هي أن هذا النقاش ليس جديدا، فهو مطروح منذ عدة سنوات، ليس في المغرب فقط، وإنما في عدة دول عربية حاربت أنظمتها مادة الفلسفة، ومن بينها من ألغتها نهائيا من مناهجها التعليمية، بدعوى أنها تهدد العقيدة وتنشر الإلحاد، وبالمقابل تم "إغراق" المناهج التعليمة بمواد دينية كان من نتاجها أجيال من الخريجين الذي لا يحملون فكرا نقديا.

وفي المغرب، كان لتدريس مادة الفلسفة مساحة كبيرة في مناهج التعليم حتى سبعينيات القرن الماضي، حيث كانت هذه المادة تدرس باللغة الفرنسية قبل أن يتم تعريبها وزيادة ساعات تدريسها، مما زاد من مد الفكر النقدي الذي كان سائدا آنذاك في أوساط التلاميذ والطلاب الذين كانوا يشكلون كتلة نقدية حرجة مزعجة بالنسبة للنظام. لكن هذا الفكر النقدي كان يصب في خانة الأحزاب اليسارية المعارضة للنظام الذي لم يكن يرى في المدارس والمجامعات والمعاهد سوى "مشاتل" لتخريج معارضين له، فما كان من النظام آنذاك سوى أن قام باحتواء مادة الفلسفة في المناهج التعليمية، وتهميشها في مستوى التعليم الثانوي والتعليم العالي من خلال تقليص ساعات تدريسها، وحذفها نهائيا من بعض الشعب العلمية مثل الاقتصاد والحقوق ومن مراكز تكوين المعلمين، وخلق شعبة التعليم الأصيل التي لا وجود لمادة الفكر الفلسفي بها.

مادة الفلسفة ليست مهمة في حد ذاتها من حيث مضمونها، بقدر ما يهم ما تعلمه لقارئها من طريقة في التفكير وطرح الأسئلة والمحاججة، فهي مجرد وسيلة وليست غاية؛ وسيلة لتنمية وعي عقلاني تنويري نقدي لدى المتلقي

واختزال مادة الفلسفة في مجموعة من المعلومات المنتقاة من تاريخ الفكر لا تُكسب التلميذ أي قيمة مضافة، وإنما تقتل فيه ملكة النقد والتحليل، لأنها تعتمد على الحفظ والتلقين. ودمج ما يسمى بـ"الفلسفة الإسلامية"، أي الفكر الإسلامي، وأغلبه فكر فقهي بالفلسفة العامة، وإسناد تدريس هذه المادة إلى خريجي كليات الشريعة، وهذه أكبر مغالطة حصلت في مناهج التعليم المغربية؛ لأنها أدت إلى خلق تشويش عند أجيال لم تعد تميز ما بين مادة الفلسفة كمنهج علمي يعلمنا طريقة التفكير، وبين استعراض انتقائي لتاريخ بعض الأفكار اعتمادا على الحفظ والتلقين.

لقد كان هدف الملك الراحل الحسن الثاني من القضاء على مادة الفلسفة وفسح المجال لمادة التربية الإسلامية في مناهج التعليم هو تجفيف منابع الفكر النقدي عند خريجي المدارس والجامعات المغربية، لأنه لم يكن يرى فيهم سوى معارضين محتملين لنظامه الاستبدادي. ومنذ ذلك التاريخ ومادة الفلسفة ومقرراتها تتراجع داخل المناهج التعليمية المغربية، ويتعرض دارسوها ومدرسوها وخريجو شعبها للتهميش والاحتقار، وفي المقابل، تم قتل ووأد كل فكر نقدي لدى خريجي هذه المناهج.

ولعل ما يعيشه التعليم المغربي اليوم من أزمة تعيد إنتاج نفسها، يعود في جزء منه إلى ذلك الهجوم المنظم والممنهج ضد مادة الفلسفة الذي أضر بمستوى التعليم في المغرب، حتى أقر "المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي" (وهو مؤسسة رسمية مغربية) في آخر تقرير صادر عنه، أن التعليم العمومي الذي يعتمد أساسا على التلقين والحفظ أصبح ينتج أفواجا من الأميين ويكرس الفوارق الاجتماعية.

وبالرغم من هذه الوضعية الخطيرة التي يوجد عليها التعليم في المغرب، ما زالت وزارة التعليم في المغرب تبرر زيادة تدريس مادة التربية الإسلامية بأن الهدف منها هو "ترسيخ قيم الوسطية والاعتدال، ونشر قيم التسامح والسلام والمحبة، وتعزيز المشترك الإنساني بالبعد الروحي"، (حسب بيان سابق صادر عن نفس الوزارة يدافع عن زيادة ساعات تدريس مادة التربية الإسلامية في المناهج التعليمية). والحال أن مادة الفلسفة التي تقوم على النقد والتحليل، هي التي تجعل الذهن ينفتح على قيم كونية مشتركة مثل الحوار والاختلاف وقبول الآخر..

فالتفكير الفلسفي يبدأ بالشك، والشك كما يقال هو طريق اليقين لأنه يوقظ العقل ويحفزه للبحث عن الأجوبة التي تقلقه. ويعلمنا التساؤل والمحاججة، وينمي فينا قيما كونية مشتركة وعقلانية، بالإضافة إلى أنه يُكسب صاحبه القدرة على النقد والتحليل. فمادة الفلسفة ليست مهمة في حد ذاتها من حيث مضمونها، بقدر ما يهم ما تعلمه لقارئها من طريقة في التفكير وطرح الأسئلة والمحاججة، لذلك فليس مهما أن نشحن أذهان التلاميذ بتاريخ الأفكار، وإنما أن نعلمهم كيفية التفكير بحرية وبدون وصاية، فالفلسفة هي مجرد وسيلة وليست غاية في حد ذاتها؛ وسيلة لتنمية وعي عقلاني تنويري نقدي لدى المتلقي.

وفي فرنسا، هناك تجارب اليوم لتدريس مادة الفلسفة ابتداء من الحضانة، لتعليم النشء طريقة التفكير حتى قبل تعليمهم الكتابة. وقد أكدت الدراسات التي رصدت هذه التجارب في بعض دور الحضانة الفرنسية، أن تشجيع النشء على التداول في مواضيع فلسفية عامة مثل الحب والحياة والموت والاختلاف والسلطة ساعدتهم في التقدم في اكتساب اللغة، وفي تعلم الكلام، وعلمتهم القدرة على الاستماع والانتباه لما يقوله الآخر، والتقدم في تطوير طريقتهم في التفكر.

الملك الراحل الحسن الثاني (رويترز)
الملك الراحل الحسن الثاني (رويترز)

وحسب الأخصائيين، فإن الأطفال الصغار منذ سن الثالثة يبدؤون في طرح أسئلة فلسفية وجودية عميقة من قبيل: من أين أتينا؟ وكيف أتينا؟ وأسئلة أخرى أكثر تعقيدا، على الرغم من صغر سنهم، يستمدونها من الأمثلة الموجودة في حياتهم اليومية، وتخلق لديهم قلقا لا يجب أن يستهان به. فكل الأطفال يولدون فلاسفة من خلال الأسئلة الكثيرة التي يبدؤون في طرحها منذ سن مبكرة.

وجوهر وغاية الفلسفة كما يقول الفيلسوف الألماني هيغل، هو تخليص الإنسان من حالة القلق الوجودي التي تولد معه. فهذا الفيلسوف الذي عاصر مرحلة التحولات الكبرى التي عاشها الغرب، وهي مرحلة الخروج من عصر الظلمات الذي يؤرخ له في القرون الوسطى إلى عصر التنوير الذي أنتج فلسفة الأنوار، يرى أن العبور من منطقة الاضطرابات تلك، ولدت لدى الإنسان قلقا وجوديا هو الذي خلق لديه الحاجة إلى الفلسفة التي تنمى لدى الإنسان وعيا نقديا ينور العقل ويشحذ الفكر.

وهذا الوعي هو الذي نحن في حاجة ماسة إليه اليوم للخروج من حالة الاضطراب الفكري التي تعيشها مجتمعاتنا العربية بسبب سيادة فكر رجعي، يعتمد على النص والنقل، ويخدم الأنظمة المستبدة عدوة كل فكر نقدي، لأنه يخلخل أسسها الفكرية والعقائدية التي تستمد منها شرعيتها. فالصراع اليوم مع مادة الفلسفة في المغرب وفي أكثر من دولة عربية، هو صراع قديم في الثقافة العربية، بدأ مع الترجمات الأولى في العصر الأموي للمؤلفات الفلسفية اليونانية، وهو صراع ما زال مستمرا ما بين ثقافة تكرس الخنوع والخضوع وثقافة تحث على السؤال والنقد والشك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.