شعار قسم مدونات

الغوطة.. "سِيْرانُ" أهلِ الشام

BLOGS الغوطة

قبل أن تصل الحدود بقليل، تجد على يمينك متجرا كبيرا يضم كل ما قد تشتهيه من مذاقات الشام التي تمتلئ بالبركة واللذة. لو كنت أعلم أن تلك ستكون زيارتي الأخيرة لسوريا، لاشتريت كل ما في المتجر بلا كلل، ولشبعت من جلسة قاسون أكثر، ولسرت في شوارع دمشق القديمة أكثر، ولاختليت في الأموي أكثر، ولنظرت لتفاصيل المكان أكثر، ولأخذت معي منها ياسمينا أبيض لا شبيه له أبدا. لكن! من كان له أن يخال ولو لحظة أن زيارة الشام ستصبح حلما، وأن هذي الأرض القريبة ستغدو أشد بعدا؟ 

منذ أن كان تلفاز بيوت عمان لا يعرف قناة غير الأردنية إلا السورية، ومنذ أن كانت دراما سوريا هي الأولى، ومنذ أن ابتدأنا الحياة ونحن نسمع مصطلحَ "السيران"، و"السيران" في لغةِ أهل سوريا يعني رحلة إلى أرض جميلة خضراء، و"السيران" في عرف أهل سوريا يعني جلسة أحباب تحمل بين جنباتها فرحا ومتعة وترفيها. وكنا غالب الوقت إذا سمعنا كلمة "سيران" تبعها اسم مكان يدعى "الغوطة"، والغوطة بساتين خضراء تحيط دمشق، سهول غناء بأشجار الفاكهةِ، مساحة تعد من أخصب بقاع الأرض، فيها الماء والأشجار والآثار ولها تشد الرحال سياحة، حيث ترى الربيع بحقيقة معناه. كانت هذي الأرض جميلة يوما حتى ابتدأت فيها "دراما" لا تعيث في الأرضِ إلا الفساد، مسرحية لا تريد شيئا إلا تقسيم البلاد، والشعب في بلادنا بات يقول: "اقتسموا البلاد.. خذوها، لكن أبقوا لنا شيئا من كرامةِ العباد". كانت هذي الأرض جميلة يوما حتى ابتدأت فيها مسرحية تحركنا دمى تتراشق علينا بالقتل والدماء. 

أنظرُ لصور القتلى في الغوطة، لمشاهد البيوت المهدمة، لأرقام الجرحى، لمنظر الدماء، لبكاء الأطفال، لأشلاءِ الناس تحت الركام، لدمار الأرض الذي كنت أظن أنني لن أراه إلا في السينما والأفلام، أنظرُ لكل ما يجري ولا يتردد في بالي أكثر من قوله تعالى: "بأيِّ ذنبٍ قُتِلَت"؛ بأي جرم تباد هذي الأرواح؟ بأي فعل اقترفتهُ تنالُ هذا العقاب؟ بأي ظلم يتجبر في الأرضِ تفنى هذي البلاد؟ الأرض التي كانت بالأمس جنة أودعها الله في أرضه، باتت اليوم مسرحا للموت وكل أنواع العذاب؛ بلا ذنب ولا إثم. على هذه الأرض التي كانت بالأمس ربيعا وجمالا، تقتل اليومَ الأنفس دون أن تدري مَن قاتلها ولِم قتلها وكيف قتلها؟

الحياة ليست وردية أبدا، وإنّ بلادنا اليوم أشد ضعفا من أن تنصرنا. لكنّ منظر هذي الدماء لا يزيد القلب إلا صمودا ويقينا بأن لنا بين يدي الله يوما وقفة نريد فيها أن نكون ممن رابطوا على الحق حتى النهاية
الحياة ليست وردية أبدا، وإنّ بلادنا اليوم أشد ضعفا من أن تنصرنا. لكنّ منظر هذي الدماء لا يزيد القلب إلا صمودا ويقينا بأن لنا بين يدي الله يوما وقفة نريد فيها أن نكون ممن رابطوا على الحق حتى النهاية

يطلق أهل سوريا على "دمشق" اسم "الشام"، وهي كانت كذلك فعلا؛ فقد كنت ترى في دمشق بلادَ الشام كلّها، بعراقتها، بجمالها، بثقافتها، بكلّ تفاصيلها. واليوم أنتَ لا زلتَ ترى في سوريا بلاد الشام كلّها أيضا.. ترى ضعفنا المتراكم تبعا وقد باتت سوريا تدفع ثمنه، ترى صمتنا الدائم تبعا وقد باتت سوريا تباد لأجله.. ترانا في صور الموتى كلّهم، ترى انفصام مواقفنا، وتردد آرائنا.. انظر لوجه الطفل الخارج من تحت الركام، سترى فيه أصوات المطالبين بحرية مصطنعة، تريد من الحرية أن تغدو لباسا وهيئة وتغض الطرف عن معنى الحرية الأول بأن يحيا الإنسان بلا عدوان… انظر للشوارع المتهالكة الممتلئة ببقايا الصواريخ، سترى شبابنا التائه ما بين ألف شبهة وشبهة، شبابنا الذي أُضعف بألف باب وباب.. انظر لسوريا لترانا جميعا، فما الأرض إلّا انعكاس لحالنا، وما الأوطان إلا صورة أرواحنا. 

يعج العالم بالظلم، وندري أنّها سنة الحياة بأن يتدافع الناس وأن يبقى صراع الحق والباطل ممتدا. وندري أيضا أن "الغوطة" لم تكن أولى النكبات، وأسفا ندري أيضا أنها ليست آخرها. وندري أن الأمر لا ينتهي عند عدد القتلى والوفيات، ولا بمدى الجرح والإصابات، فالوجع سيمتد أعواما تحمل ضيق حال وصعوبةَ إعادةِ بناء وكثيرا من الفقدِ والغربة.

 

ندري أن الحياةَ ليست وردية أبدا، وأن بلادنا اليوم أشد ضعفا من أن تنصرنا. لكنّ منظر هذي الدماء لا يزيد القلب إلا صمودا ويقينا بأن لنا بين يدي الله يوما وقفة نريد فيها أن نكون ممّن رابطوا على الحق حتى النهاية. كنا نقول قديما: "يزرع الآباء ليحصدَ الأبناء"، ونقول اليوم سنصمد على الإصلاحِ أجيالا حتى يُحصَدَ الصلاحُ في الأرضِ يوما. نعم، سنبحث عن طرقِ إغاثة ونصرة، وستلهج ألسنتنا بالذكر والدعاء، وسنكتب في كل المجالات والمواقع عن الظلم والقتلى، لكننا لن نكف رباطنا يوما على أن الإصلاح الذي ندرك أنه لا يأتِي في يوم وليلة، لن نكفّ رباطنا يوما على أنّنا سنبقى نعدّ ما استطعنا من قوة لأجلِ هذي البلاد، لأجل من قُتلوا، لأجلِ مَن ظُلِموا، لأجل مَن وهب اللهُ لهم الحياة. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.