"إن مركزية الإنسان هي أمر يحتمه وعي الإنسان.. هذه المركزية ليست تعبيرا عن سيادة أو سلطة الإنسان في مواجهة ما يُعتبر سلطة الدين أو سلطة الله، أو أي سلطة أخرى، وإنما هي وصف لعلاقة الوعي بالوجود، ولعلاقة الوعي بنفسه". الوعي ومركزية الإنسان (3)
بكلمات أخرى، مركزية الإنسان ليست قضية معيارية بل وصفية. فعندما نقرر هذه المركزية فنحن لا نضع الإنسان في مركز العلاقة بين الوعي والوجود لأننا نريد ذلك لأسباب تتعلق برؤيتنا لما يجب أن يكون عليه الإنسان، وإنما ببساطة هذه هي النتيجة التي يقود إليها التحليل. هذا لا يعني أن كل فرد من النوع البشري يجسِّد هذه المركزية في ذاته. ففي الواقع هُناك بشر يفتقرون إلى الأصالة في الفكر، وبالتالي إلى الاستقلال والحرية، ويتماهون بذلك مع الواقع المادي الموضوعي، مع أنظمة اجتماعية وثقافية بلا قُدرة على الانفصال عن هذه الأنظمة.
و بما أن مركزية الإنسان تنشأ عن وعي حي وحُر وفاعل، فإنها تتحقق بالفعل حيثما تحقق الوعي وحيثما تحققت الحرية. وفي غيابهما ليس هناك مركزية إنسان، بل ليس هُناك إنسان بمعنى كائن مستقل الواقع المادي بوعيه وفكره، في غياب الوعي والحرية ليس هناك إنسان وإنما هناك أنظمة اجتماعية غير واعية وغير حُرة. لقد تمت معالجة هذه النقطة بشكل مفصَّل في الجزء الأول "الوعي ومركزية الإنسان (1)".
المعرفة يُمكن أن تؤدي إلى الحرية ولكن ليس بالضرورة، وقد تتراكم عبر التاريخ ولكن هذا لا يعني أن الحرية تزداد بشكل مطّرد مع تراكم المعرفة |
كل البشر بالطبع هم جزء من التاريخ، جزء من حضارة ما أو/ومن ثقافة ما، ما يجعل فكرهم وبالتالي حُريتهم واستقلالهم ضمن شروط محددة دائما، الأمر الذي يبدو وكأنه يتعارض مع مركزية الإنسان؛ بحيث يبدو الإنسان في النهاية ودائما كجزء لا يتجزأ من التاريخ، فليس هناك إنسان مستقل بكل جوانب وجوده عن التاريخ. هذا صحيح ولكنه لا يلغي مركزية الإنسان، والسبب هو أن أصالة الوعي وليس المعرفة هي مفتاح الحرية وبالتالي الاستقلال عن التاريخ وعن كل شيء، فالوعي كما تقدم في الجزء الثاني هو "نقيض الوجود" ونقيض التاريخ والواقع بالتالي وكل ما يبدو ظاهريا على أنه يحد الإنسان. في المقال السابق قُلنا إن الوعي بالضرورة وبالإكراه هو دليل على الحرية، وهو بالتالي دليل على الاستقلال عن هذه الضرورة وعن الإكراه على مستوى الفكر.
إذن أصالة الوعي هي ضمان استقلال الوعي الإنساني عن التاريخ، وهي أمر لا تطاله القيود والشروط التاريخية، لأن هذه القيود والشروط تحكم الواقع المادي والموضوعي، ولا تحكم الوعي كشيء هو بالتعريف لبّ الذاتية. وهُنا لا ينبغي أن نخلط بين المعرفة والوعي، فمعرفة الإنسان بلا شك مقيدة ومشروطة بالتاريخ، ولكن هذا لا يعني أن نستنتج أنه بما أن المعرفة محدودة فالحرية والاستقلال بالمعنى الذي نتكلم هنا كذلك محدودان. فالمعرفة والحرية ليسا وجهين لنفس العملة، المعرفة لا تعني الحُرية بالضرورة، ولا تعني أيضا أصالة الوعي التي تعتبر مفتاح الحرية، ولقد أوضحنا ذلك في الجزء الأول. وإنسان يعرف أكثر لا يعني بالضرورة إنسانا أكثر حرية، ولا إنسانا أكثر أصالة، والعكس كذلك صحيح.
إن المعرفة يُمكن أن تؤدي إلى الحرية ولكن ذلك ليس بالضرورة، وقد تتراكم المعرفة عبر التاريخ ولكن هذا لا يعني أن الحرية تزداد بشكل مطّرد مع تراكم المعرفة، لا الحرية بالمعنى الداخلي الذاتي المتعلق بالوعي بالذات وبالأصالة، ولا الحرية بالمعنى الخارجي الاجتماعي.
إن قضية مركزية الإنسان ترتبط بالحرية من عدة أوجه نظريا وعمليا. تكلمنا حتى الآن من ناحية نظرية تحليلية تتعلق بعلاقة الوعي بالوجود. هناك الوجه العملي لهذه المركزية والذي يعبِّر عن نفسه في الأخلاق وفي علاقات الاجتماع الإنساني عموما، وفي هذا المستوى تأخذ قضية مركزية بُعدا صراعيا، خصوصا في مجتمعاتنا التي يسيطر فيها الفكر الديني حيث من المفترض أن يدور الوجود حول مركز غير محسوس هو الإله، ويقف النصّ الديني والفكر المرتبط به كتجسيد محسوس لذلك المركز في الواقع التاريخي.
لقد تناولت هنا عدة مواضيع سابقة متعلقة بالدين تدور حول نفس النقطة، وهي أن كل شيء يدور حول الوعي الإنساني، كل ما هو متجسد في لغة وفكر فهو يدور داخل الوعي الإنساني، كل إحساس أو شعور أو انفعال فهو متعلق بالوعي، كل حوار أو نقاش فهو يدور داخل حدود هذا الوعي وذلك بكل المعاني الممكنة لكلمة وعي.
و لكن مركزية الإنسان لا تتعلق بالدين فقط كقطب في مواجهة ما يُعتقد بأنه مركزية الله أو مركزية الدين، فالدين قد عمل على تكريس هذه المركزية، أي مركزية الإنسان بالنسبة للعالم، فالأرض هي مقر الإنسان وكل ما فيها مسخر له، وترتفع السماء فوقه بنجومها وكواكبها كسقف يقف بغير أعمدة، بل حتى النجوم هي بطريقة ما مسخرة للإنسان؛ حيث هي زينة للسماء ويهتدي بها الإنسان في ظلمات البر والبحر، والقمر كذلك هو سراج منير ومرتبط أيضا بعدد السنين والحساب ومواقيت العبادات.
بيد أن مركزية الإنسان بالمعنى الأكثر ارتباطا بتحليلنا هنا والتي كرسها الدين هي التي تتجلى من خلال الإرادة الحرة والمسؤولية.. أن يمتلك الإنسان الإرادة الحرة التي تجعله مسؤولا عن فكره وعمله، ما يعني أنه يملك استقلالا إزاء كل الشروط التاريخية التي تشرط وجوده. وربما يُمكننا تتبُّع بذرة الحرية والاستقلال في الإنسان وارتباطها بالدين على الأقل لدى بعض الشعوب، بحيث يُمكننا القول إن الدين قد غذى هذه البذرة عبر مراحل من التاريخ.
المفارقة العجيبة هي أن نفي الدين ونفي الله من التصور الإنساني للوجود، والذي قد يبدو كتعبير عن حرية واستقلال الإنسان، يؤدي إلى نفي الحرية والإرادة ، ونفي حتى الوعي نفسه، ونسف المركزية الجزئية التي يمنحها التصور الديني للإنسان.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.