٢
بعد إجازة الميزانية في بداية يناير، خرجت بعض الأصوات في المعارضة تدعو للانتظام في مسيرات رفض ووقفات سلمية للاحتجاج، ولكن السلطات الأمنية قابلتها بالقمع، جميع السلع تضاعف سعرها بسبب ارتفاع الدولار الجمركي إلى 18 جنيه بدلا عن 6.9 جنيه، وتحرير أسعار الدواء والقمح، فالسودان في عهد المؤتمر الوطني أصبح دولة استهلاكية بامتياز، على عكس عدد من الدول الافريقية النامية التي تجاوره والتي اتجهت نحو الإنتاج المحلي والاكتفاء الذاتي بغرض خفض العجز في الميزان التجاري لمعظمها.
خلق صناعات بديلة للسلع التي تم منعها من الاستيراد قد يسهم في انخفاض الدولار، ففي العام الماضي تم منع المنتجات المصرية فازدهرت المنتجات المحلية وخلقت لنفسها سوقا جديدا، الأمر نفسه متوقع لمعظم المنتجات المستوردة من الصين |
كما زادت أسعار الكهرباء بالنسبة للقطاع الصناعي بنسبة قاربت الـ 800٪ و هو ما يضع القطاع الصناعي في موقف حرج، خصوصا مع الصعوبات التي كانت تواجهه في استيراد مدخلات الإنتاج نظرا للعقوبات الأميركية التي تمنع دخول عديد من المنتجات أو مدخلاته إلى السودان، أو حتى التحويل المباشر بين البنوك السودانية ونظيرتها في باقي الدول، وهو ما يجعل التحويل يمر عن طريق تجار السوق الأسود، مما يضع أموال المنتجين في خطر وزيادة التكلفة على المواطن، وبعد رفع العقوبات أضحى بنك السودان المركزي مطالبا بتوفير العملة الصعبة للمنتجين، وهو ما أظهر العجز وكمية الفساد الذي لاحق الجهاز المصرفي، وجعل بنك السودان يطارد العديد من الشركات التي تلاعبت بحصائل الصادر، وأيضا البنوك التي ساهمت في وصول الحال إلى هذا الوضع، مما حذا ببنك السودان المركزي لاتّخاذ قرارات متعجلة وفي ظرف شهر لتدارك الوضع الجديد.
٣
ونتيجة لكل الأسباب سالفة الذكر أصبح الاقتصاد يعاني من حالتين غريبتين في الوقت ذاته، فالانكماش الاقتصادي بتعريفه الذي تقوم به الشركات أو المؤسسات وذلك بهدف حصر منتجها على شريحة معينة بدون التأثير على ربحها الكلي حدث دون قصد للشركات، وأيضا الكساد الذي أصاب السوق نتيجة عدم توفر السيولة النقدية وارتفاع الأسعار الجنوني وتوقف عدد من التجار عن البيع نتيجة عدم ورود بضاعة جديدة منذ بداية السنة نتيجة ارتفاع الدولار الجمركي، فبنك السودان المركزي منذ أسبوعين أوقف السيولة النقدية من البنوك والصرافات الآلية بغرض تقليل الكتلة النقدية في السوق، وأيضا محاولة كبح جماح الدولار الذي زاد عن 45 جنيه نتيجة المضاربات، و أيضا الطلب المرتفع عليه من قبل الناس.
٤
تقول الأخبار المتداولة في وسائل التواصل الاجتماعي وهمس الناس إن الحكومة المصرية قد قامت بطباعة عملة مزيفة وشراء الدولار، إذ لا يعقل البتة أن يرتفع الدولار من 28 ويصل حد 50 نتيجة الطلب العادي عليه إلا إذا كان هنالك طلب فوق العادة، وتروج أيضا اتهامات للشركات الكبيرة بأنها قامت بشراء كميات هائلة من الدولار عقب رفع العقوبات بصورة نهائية في شهر نوفمبر من السنة الماضية، لكن الحقيقة الماثلة أمامنا هي أن الدولة بكافة أجهزتها تحاول السيطرة على الدولار أولا بملاحقة الشركات المتهربة من دفع حصائل الصادر، وثانيا بالقبض على تجار العملة، وثالثا باعتماد الاستيراد فقط عن طريق بنك السودان المركزي، مما يجعل العملة المتداولة محليا غير ذات جدوى بعد أن تم تخفيض الحد الأعلى المسموح به للمسافرين من عشرة آلاف دولار إلى خمسة آلاف دولار، و وقف جميع الامتيازات للسيارات والاعفاءات الجمركية، ووقف سلع كثيرة مثل لعب الأطفال وقائمة مكونة من أكثر من 40 صنفا من السلع، كانت تساهم في استنزاف الدولار على قلته. هذه الإجراءات لو تمت بالصورة اللتي ابتدأتها الحكومة منذ بداية السنة قد تسهم فعلا في انخفاض الدولار وخلق صناعات بديلة للسلع التي تم منعها من الاستيراد، فعلى سبيل المثال، تم، العام الماضي، منع المنتجات المصرية فازدهرت المنتجات المحلية من حمضيات وحلوى وبسكويت وخلقت لنفسها سوقا جديدا، الأمر نفسه متوقع لمعظم المنتجات التي تستورد من الصين!
بنظرة اقتصادية بحتة، قد تبدو هذه النظرية قابلة للتطبيق، لكن المشكلة الكبرى هي أن الدولة السودانية ينتشر فيها الفساد من أعلى الهرم إلى أسفله، وأتت في الترتيب ثالثة من حيث أكثر البلدان فسادا، مما يُصعب عملية التطبيق، وأيضا صبر الناس حتى قيام الصناعات البديلة وتوفير لقمة العيش والدواء الذي غدا مستحيلا، ما تصبح معه هذه الإجراءات التي جعلت الدولار يتراجع قليلا كما السهم الذي يستعد للانطلاق إلى حيث اللاعودة مجددا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.