أن تتمنّى الموت وهو يهطل حولك كزخّات المطر وهو يتركك حيّا. تنتظره ويتركك وكأنّه يتعمّد أن يستنفد كلّ ما فيك من حياة. لم تكن تعرف أساسا أنّه بقي فيك حياة. تتحسّس جسدك، تسمع صوتك يطنطن فقط ليؤكّد لك أنّ الموت نسيك. لا تُعر نفسك اهتماما لما تقوله. لم يعد للكلام معنى. وحده الموت ستجمع له كلماتك، ولو كان يسمعك لعاتبته. أليس كافيا كلّ هذا الذي لم تعد تجد له وصفا؟ لا هي حياة عشتها، ولا هو موت. ربما هذا هو البرزخ. تبقى معلّقا، تعرف أنّك ستموت. الجميع سيموتون. لكن أنت تعيش بجانب الموت، تعرف أنّه قريب ولا تنساه، جاورته بما فيه الكفاية حتّى أنّك تعوّدت على فكرته. بتّ في كلّ مرّة يهطل فيها تستعدّ. لماذا يتركك دون الآخرين؟ ما نفع الحياة أساسا دون الآخرين. ربما يتركك لتروي حكاياتهم. لكنّك لا تريد أن تكون الراوي. لا تريد أن تحمل أرواحهم معك. لم يعد يتّسع القلب لكلّ هذا الغياب، لكلّ هذا القهر والذلّ والظلم. لا تريد أن تكون راويا. تريد أن تموت معهم وتبا للرواية.
تبا لهذا التاريخ الذي سيكتب أنّك صمدت، لتموت في نهاية الصمود. لماذا لا تموت في بداية الصمود وليمرّ التاريخ بعيدا عنك. لا تريدهم أن يبيعوك الأوهام بعد الآن ولا الشعارات. لا تريد بياناتهم واستنكاراتهم واجتماعاتهم الطارئة. ربّما أنت ستدعو الموت لاجتماع طارئ لتعرب له عن قلقك لأنّه يتعمّد وبشكلٍ ممنهج أن ينساك هنا. تسمع أصواتا بعيدة تقول لك أن تصمد. تسمعهم يصرخون ويقولون يجب أن تتوقّف آلة الموت يجب أن يُفكّ الحصار. لماذا يصرخون الآن وأنت على آخر نفس؟ ماذا ستفعل إذا أوقفوا الموت قبل أن يحين دورك؟ ماذا ستفعل بحياة بعيدة عن الموت؟ ما قيمتها أساسا؟ جميعهم سيموتون بأي لحظة، لكنّهم لا يدركون ذلك كما تدركه أنت. فلماذا تتخلّى عن هذه البصيرة؟ تصرخ أعلى منهم علّ الموت يسمع صوتك دون صراخهم.
بينما ألتقط أنفاسي الأخيرة وأخطو نحو الموت الذي نسيني، أترك لكم كلماتي الأخيرة، فربما تبقى شاهدة على ما بقي من الملحمة.. "تبا لمن يعتقد أن الانتصارات تمر عبر القبور" |
لماذا تتركني هنا؟ أنا لا أريد أن أكون راويا. لا أريد أن أنجو وأخرج بباصات ملونة تحت عدسات الكاميرات. لا أريد أن تراني عيون لا أعرفها. لا أريد أن أتعرّف على جيران جدد وأحباب جدد سيموتون في أي لحظة لكنّهم ينسون ذلك. لا أريد أن أنسى أن الموت قريب، لا أريده أن يغدر بي. لا أريد أن أعيش من جديد وأفرح وأتأمّل فأحزن ويخيب أملي. اليأس يأتي من كثرة الأمل أساسا. اتركوني هنا بين القبور ودعوني أموت بدون بيانات واستنكارات وأشعار.
تبا لهذا الجوع الذي يبعثر أفكاري. ما الأصعب؟ الموت أم الجوع؟ أم هذه الحياة التي تتأرجح نهاراتها بين الجوع والقصف؟ ما معنى كلّ هذا؟ ما الذي أنتظره؟ هل أنتظر أن أموت جوعا؟ أم أموت أشلاء؟ أم أموت ذلا تحت آلات التعذيب؟ نعم دخلت اليوم معادلة جديدة على منظومة الموت، لم أكن أحسب حساب إمكانية تسليمي للوحش الذي قصف أولادي. كنّا قد تعوّدنا على التأرجح بين الجوع ونقص كلّ مستلزمات الحياة والموت المتربّص بنا. في بعض الأيام كنّا نجد بعض التسلية في لعبة أقدارنا. الملل والتكرار يجعلك تطوّر حسّ سخرية عال، حتّى من حياتك أو موتك بالأحرى.
رأيتهم يموتون أمامك، ورغم فظاعة ما رأيت، اعتدته. اعتدت الموت بكثير من أشكاله. رأيته بأمّ عينيك. لكنّهم يحدّثونك اليوم عن موت جديد قادم. موت أكثر إذلالا من الحضيض الذي اعتدته. الموت المحتّم لم يعد يخيفك أساسا. لكنّ هذا الموت تزعجك فكرته. لا تخافه لكنّك تمقته. سلبوا منك كلّ خياراتك، وجاوروك الموت طيلة أعوام، وفي النهاية يسلبونك حتّى حقّ الموت بكرامة؟
لماذا أنتظر الموت أساسا؟ ماذا لو نسيني فعلا؟ لماذا لا أحمل معولي وأحفر قبري هنا بين قبور ألفتها. أحفر وأستلقي هنا وأتلحّف بالتراب. ما الفرق بين التراب وركام عشرات المنازل التي خرجت من تحت أنقاضها؟ أحفر قبري، وأستلقي، وأتلحّف بالتراب. وبينما ألتقط أنفانسي الأخيرة وأخطو بنفسي نحو الموت الأحمق الذي نسيني، أترك لكم كلماتي الأخيرة. ربما تتحوّل لركام، وربما تبقى الوحيدة شاهدة على ما بقي من هذه الملحمة. "تبا لمن يعتقد أنّ الانتصارات تمرّ عبر القبور".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.