والذي یعزز فرضیة أن كیسنجر وراء فكرة التحالف المقدس هو هوس كیسنجر في "مؤتمر فيینا عام 1815″، فكانت أولى مؤلفاته حوله، واستمر یكتب ویؤلف عن هذه الحقبة إلى الیوم، وخالف رأیه فیها آراء جمهور المؤرخین بتفسیر هذا الحدث على أنه "الحدث الذي أعاد أوروبا مئة عام إلى الوراء، وجعلها تغرق بالرجعیة والاستبداد والظلام بعد سطوع شمس الثورة الفرنسیة علیها"، حیث یقول كیسنجر عن المؤتمر الذي ترتب علیه إنشاء "التحالف المقدس بین دول أوروبا": "وجّهتْ الثورة الفرنسیة ضربة ربما كانت فتاكة إلى الحق الإلهي للملوك؛ غیر أن ممثلي هذه العقیدة ذاتها كانوا مطالبین بإنهاء جیل من سفك الدماء.
كانت لدى حلفاء فیينا فرصة أكبر لسحق الروح الثوریة في أوروبا من أصحابنا، یؤازرهم غیاب وسائل الإعلام الحدیثة، والوعي، ومنظمات حقوق الإنسان.. ومع هذا فشلوا بمخططاتهم الرجعیة |
وما یُثیر الدهشة في هذه الظروف، هو لیس كم كانت معیبة تلك التسویة التي تم التوصّل إلیها، إنما كم كانت منطقیة؛ ولیس كم كانت "رجعیة" وفقا للعقائد المعتدّة بنفسها من تأریخ القرن التاسع عشر، وإنما كم كانت متوازنة. صحیح أنها لم تحقّق ربما كل آمال الجیل الذي طمح إلى المثالیة، إلا أنها قدّمتْ لهذا الجیل ربما ما هو أثمن بكثیر: أي فترة من الاستقرار سمحتْ لآماله بأن تتحقق دون حرب كبرى أو ثورة دائمة". فما هو مؤتمر فيینا؟
بعد هزیمة نابلیون أمام جیوش التحالف الأوروبي المتكونة من روسیا، والنمسا، وبروسیا، وبریطانیا عام 1813، تشكلت مجموعة من المؤتمرات لتنظيم أمور القارة ووضع أسس للسلام الدائم فیها، تكللت بمؤتمر ضخم أقیم في فيينا. جاء هذا المؤتمر بعد أن زلزلت الثورة الفرنسية عروش ملوك أوروبا وأزالت القداسة عن سلالات ملوك أوروبا، مما جعل الحلفاء يعلنونها بكل وضوح حربا على قیم الثورة الفرنسية وعلى كل محاولة لقلب أي نظام ملكي في أوروبا، واستعدادهم التام للدفاع عن عروش بعضهم البعض أمام أي خطر "تحرري" وإن استدعى الأمر قتل قلب أوروبا "فرنسا"، فقامت هذه الدول بمحاصرتها وإثقال كاهلها بالديون وضرائب الحرب، ولیس هذا فقط، بل أعادت إلى الحكم فیها آخر سلیل لعائلة البربون وألغت الحكم الجمهوري والدستور.
ما نقاط التشابه بین هذا الحلف والحلف العربي بقیادة الإمارات والسعودية؟ النقطة الأولى والأساسية المشتركة بین الحلفين هي "معاداة حریة الشعوب والشعور الثوري"، كلا الحلفين جاء بعد مد ثوري ليجزره. ولكن السؤال هنا؛ هل نستطیع أن نشبه محاربة دول تحالف أوروبا لفرنسا بحرب التحالف العربي على قطر؟ قطعًا، إن قطر الأمیریة لیست فرنسا الثوریة، لكن قطر هي الدولة الوحیدة التي كان یأخذ فیها ربيعنا المخنوق أنفاسه ویوصل صوته المبحوح عبر "جزیرتها" التي دأبت منذ أیام الربیع العربي الأولى على أن تكون منبرًا للثوار وداعمة لهم بالصوت والصورة والكلمة، بل والأكثر من هذا كانت الجزیرة وما زالت تُحیي في الوعي الجمعي المسلم والعربي قیم الإسلام والعروبة وقضایا الأمة العادلة وتاریخها المشرف. ثم إن قطر رفضت الاعتراف بحماس المقاومة والصمود والإخوان المسلمین كمنظمات إرهابية، ورفضت تسلیم شخصیات مقیمة لدیها أدرجت جزافًا بقائمة الإرهاب، فلا عجب أن تصبح قطر هي العدوة الأولى للتحالف العربي.
السبب الآخر الذي یدعونا لتشبیه التحالف العربي بتحالف القوى الأوروبیة هو أن لكليهما عدوا خارجيا -مختلف عقائدیا وقومیا ولغویا- یمكن بسهولة إثارة عواطف الشعوب ضده؛ في حالة تحالف أوروبا هي الإمبراطوریة العثمانیة، وفي حالة التحالف العربي هي إیران. ومن طرائف التوافقات التاريخية في هذا الأمر أن التحالفين -الأوروبي آنذاك والعربي حالیا- لم یدخلا بمواجهة مباشرة مع عدوهما الأيديولوجي -الإمبراطوریة العثمانیة وإیران- بقدر ما دخلا حروبا بین بعضهم البعض.

فما كان بأي حال من الأحوال یمكن للفرنسیین نسیان طعم الحریة. تقول العرب "الحر حر وإن مسه الضر"؛ لذا عادوا لثورتهم وعادت معهم شعوب أوروبا تشق طریقها نحو شمس الحریة بكل شجاعة وصمود، فلا یظن حلف أصحابنا بأنه سینجو من هذه الحتمیة، وإن الحق سیهزم أبدا. يقول الشاعر:
رُويدك ليس الحقُّ يُنفى بباطلِ … وليس مُجدٌّ في الأُمور كهازل
كزعمك أن الدرع لُبسُكَ في الوغى … وذاك لجِبنٍ فيك غير مُزايل
وهل ينفعنّ السيفُ يوما ضجيعه … إذا لم يُضاجعه بيقظةِ باسِلِ
فهلاّ اتّخذتَ الصبر دِرعا وجُنّة … كما الصبر دِرعي في الخطوب النوازل
وتفخر أن أصبحت مأمول عُصبةٍ … فأحسِنْ بمأمولٍ وأخسِسْ بآمِل
وهل هي إلاّ في تُرابٍ جمعتَهُ … فهلاّ غدتْ في بَذلِ عُرفٍ ونائل؟
كما هَمَّنا فاعلمْ، إغاثةُ سائلٍ … وإسعافُ ملهوفٍ وإغناءُ عائل
ولا تَغتَرْ بالليثِ عندَ خُدورهِ … فكَمْ خادِرٍ فاجا بوثْبةِ صائلِ