عرف السودان السينما قديما حيث إن أول عرض للسينما في السودان كان في العام 1910م، أي قبل قرن ونيف من الزمان، وعندما استقل السودان عام 1956م كان عدد دور العرض 30 دارا، وفي مطلع سبعينيات القرن الماضي؛ وصل عدد دور العرض إلى 55 دارا. سينما كليزيوم التي افتتحت في العام 1937م وتقع في وسط العاصمة الخرطوم، تقف شاهدة علي هذا الإرث الفني العظيم، ولعلها سميت على جدتها العتيقة في روما، وكذلك ينتشر عددا من دور السينما بأحياء العاصمة مثل سينما كوبر وبانت والوطنية، وعددا من مدن الولايات؛ مثل سينما كادقلي والأبيض وعطبرة ومدني، لكنها لا تغدو الآن سوى مبان أثرية شامخة تحاكي ذاك الزمان.
يحكى أن صحف الخرطوم اليومية في ثمانينيات وسبعينيات القرن الماضي؛ كانت تحمل عنوانا رئيسيا لقرائها؛ وهو (أين تسهر هذا المساء؟) هل كليزيوم أم بانت أم السينما الوطنية أم العرضة أم ..؟ ثم تدرج لهم أسماء أكثر من عشرين عرضا، وكان لكل سينما نكهة ومناخا، ومعمارا مختلفا. شهدت السينما في السودان انحسارا وركودا كبيرا في نهاية تسعينيات القرن الماضي وبداية الألفية الجديدة، قفلت فيه دور السينما أبوابها وأصبح الحراك السينمائي ضعيفا ولا يغدو إلا من أحاديث الذكريات والأطلال القديمة، تذكر بماض عريق.
ما يعيشه الحراك السنيمائي في السودان في السنين الأربعة الأخيرة بحماس وطاقة الشباب، يدعونا للاحتفاء وتسطير الأحرف عنه؛ لأنه يبشر بثورة قادمة تعيد للسينما السودانية مجدها، ولعل سواعد الشباب آلت على نفسها إعادة السؤال القديم؛ "أين تسهر هذا المساء؟" بتنظيم عدد من المهرجانات السينمائية فكان:
تنظمه "مؤسسة سودان فيلم فاكتوري": وهي مؤسسة تعمل في مجال صناعة الأفلام وملء الفجوة الحالية في السودان عبر برامج الدعم والتدريب والتأهيل لتطوير البنية التحتية الثقافية لصناعة الأفلام، ويتخذ المهرجان من الحادي والعشرين من يناير/كانون الثاني من كل عام؛ موعدا لانطلاق فعاليته الحيوية، هو يوم ذكرى رحيل المخرج حسين شريف صاحب الأعمال الفنية المميزة، والإسهام النوعي في مسيرة السينما والثقافة في السودان، وفي الحادي وعشرين من شهر يناير/كانون الثاني في هذا العام 2018م نظم دورته الخامسة.
هي جائزة سينمائية دولية رفيعة المستوى تقدم كل عام لصانعي الأفلام من جميع أنحاء العالم، من قبل مؤسسة "سينما الشباب" التي تمثل إحدى المبادرات الناجحة والرائدة لتمكين الشباب من صناعة الأفلام في السودان ورفع مقدرات صناع الأفلام من الهواية إلي الاحتراف. أصبحت جائزة تهارقا من أهم الأحداث السينمائية في السودان والوطن العربي وأفريقيا، وصلت إلى نسختها الخامسة في يناير/كانون الثاني 2018م، وتحمل اسم الملك تهارقا إحدي أبرز رموز الحضارة السودانية.
مهرجان مختص بالسينما العربية وصناعتها، يسعى القائمون عليه لجعله منصة دائمة للسينما العربية في السودان، ويستضيف الأفلام والمخرجين العرب. انطلق المهرجان في مارس 2015م ونظم دورته الثالثة في خواتيم العام 2017م.
هو مهرجان تنظمه بعثة الاتحاد الأوروبي بشكل سنوي، وصل دورته التاسعة بالعاصمة الخرطوم، وتتوزع عروضه بين صالات عرض المراكز الثقافية الأوروبية في الخرطوم، وتعمل على بناء جسور التواصل بين السودان والاتحاد الأوروبي.
هذه المهرجانات حركت ساكنا في بركة المشهد السينمائي في السودان، وتتميز هذه المهرجانات بأفلامها المتميزة التي أبرزت عددا من المواهب الشابة من صناع أفلام ومصورين وممثلين، وكذلك إنتاج أفلام تحاكي جزءا من الواقع، وتساهم بصورة كبيرة في عملية الوعي والتنوير، وتتنوع أنشطة هذه المهرجانات ما بين عروض الأفلام في مجالاتها المختلفة القصيرة والطويلة والوثائقية، وكذلك أوراش عمل مصاحبة لهذه المهرجانات في التصوير والإخراج وكتابة السيناريو وغيرها من مجالات السينما، واستضافة شخصيات وطنية وعربية لها ثقلها في هذا المجال؛ للاستفادة من التجارب والخبرات.
هذا الحراك السينمائي أعاد للخرطوم جانبا من بريقها؛ بجعلها منطقة لجذب الفنانين وصناع الأفلام من جميع أنحاء العالم، وكذلك كقبلة للمهتمين بالسينما القصيرة، والوثائقية، والروائية الطويلة، وكل أنواع الأفلام، في مشهد ثقافي متنوع يحاكي تنوع وتعدد ثقافة هذا البلد.
هذا المشهد السينمائي تحركه طاقات الشباب عبر مؤسسات ومبادرات تعمل بأفكار ورؤى أسهمت في إعادة الروح لهذا المجال الهام من مجالات الثقافة، وأسهمت إسهاما كبيرا في خلق بيئة ريادية لعدد من الشباب المبدعين في مجال الفنون البصرية، وإذكاء روح التنافس بين صناع الأفلام المحليين على منصات المنافسة الإقليمية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.