شعار قسم مدونات

هل الدين مانع للحب؟

blogs -iraq1

الحب غير قابل للاختزال في تعريف مادي بسيط.. الحب عصي على التعريف والشرح والتفسير، هو ليس تفاعلا كيميائيا، وليس قصيدة تكتبها بعد منتصف الليل وأنت محبط، الحب هو ما جعل هذا العالم يستمر طيلة قرون، وكلما غاب حل محله الخراب والدمار، وتحولت كلمات العشاق لقنابل تهدم البيوت، وتبدلت الورود لقبور تلتهم جثث الأطفال في نهم. هناك قاسم مشترك بين الحب والحرب، فعندما يختفي الحب بين البشر في رقعة جغرافية ما يحل محله شبح الحرب. هل تعتقد أنه من السهل أن يحمل الإنسان سلاحا في وجه أخيه الإنسان؟ أن يطلق رصاصة تستقر بين عينيه، أن يحرم فتاة صغيرة للأبد من تناول الإفطار مرة أخرى صحبة والدها، ويقرر أن عشاء البارحة سيكون آخر اجتماع لتلك العائلة وآخر مرة يتبادلون فيها المزاح والحديث؟

     

البارحة يتحدث الأب مع الأم عن الجامعة التي سيرسلون لها ولدهم، واليوم يموت هذا الولد برصاصة لا يتجاوز ثمنها نصف دولار. تخيل كم سنة من تعب الأم وتضحيات الأب تم اغتيالها برصاصة رخيصة أطلقت من سلاح سوفياتي قديم. لا يمكن أن يفعل الإنسان هذه الأفعال سوى عندما يحتل الكره والحقد قلبه، ويموت داخله ميله الفطري نحو المحبة، وتمحي من ذاكرته صورة أمه وهي تمسك يده بقوة وعطف في الطريق نحو المدرسة

    

إن كان القانون لم يجعل اختلاف الدين مانعا أمام تتويج الحب فإن المجتمع والعرف كان له دور في إفشال عدد كبير من العلاقات، لا لشيء، فقط لأن صلاتك تختلف عن صلاتي

اليوم، كثيرة هي الدماء التي تراق تحت مظلة صراعات دينية وحروب عقائدية تعمي البصيرة، فهل اختلاف عقيدة الآخر عن عقيدتك وإلهه عن إلهك يعني أن هناك بينكما جدارا من الإسمنت المسلح يمنع تبادل الحب والعطف؟ أليس الدين رسالة محبة وسلام، أم أن هذه الرسالة ضاعت في كتب الأولين وأصبحت تحدد لنا من يمكن أن نحب ونجالس، ومن يجوز أن نشرب معه فنجان قهوة ونشاهد مباراة كرة قدم بجواره ونعانقه كلما سجل فريقنا المفضل؟

    

لوأخذنا الزواج على سبيل المثال؛ وهو تتويج للحب والمشاعر، سنجد أغلب العقائد تضع حواجز أمامك إذا رغبت أن ترتبط بمخالف لك في الدين، بل أحيانا في المذهب والطريقة. أغلب الكنائس والجماعات المسيحية تعتبر الزواج بغير مسيحي مخالفا لتعاليم الرب والكنيسة، وتضع بعض الكنائس المسيحية شروطا دقيقة بمدى التزام الشريك الديني وإن كان وقع تعميده أولا وغيرها من التدقيقات الوجوبية التي لم يعد لها وجود فعلي في الغرب، بسبب تعميم القوانين المدنية وتوحيدها.

   

أما الإسلام فقد كان أكثر تسامحا في هذه المسألة بالذات؛ إذ تتفق أغلب المذاهب الإسلامية على إجازة زواج المسلم بمسيحية أويهودية لا غير، وذلك لقوله سبحانه وتعالى: "الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ" المائدة: 5. وقد حصلت بعض التجاذبات حول مدلول ودلالة هذه الآية، لكن جمهور العلماء أقر صحة الزواج بكتابية، بينما حصل الاتفاق على عدم صحة زواج المسلمة من غير مسلم.

 

لا تسأل عن عرق ودين وعقيدة صديق ابنك في المدرسة، الصغار لا طاقة لهم أن يتحملوا اختلافات الكبار، فلتدعهم يلعبون الكرة ويرسمون على الجدران ويحلمون بغزو الفضاء
لا تسأل عن عرق ودين وعقيدة صديق ابنك في المدرسة، الصغار لا طاقة لهم أن يتحملوا اختلافات الكبار، فلتدعهم يلعبون الكرة ويرسمون على الجدران ويحلمون بغزو الفضاء
   

ليعيد تصريح رئيس الجمهورية التونسية الباجي قائد السبسي الصيف الماضي هذه القضية لساحة النقاش؛ إذ صرح أنه سيتم إصدار قانون يسمح للمرأة التونسية أن تتزوج من غير مسلم دون اشتراط أن يعلن إسلامه. وقد أحدث هذا القرار ردود فعل عنيفة، والحقيقة أن القانون التونسي لا يحتوي على أي فصل يمنع هذا النوع من الزواج، إذ تخلو مجلة الأحوال الشخصية التونسية من أي إشارة إلى اختلاف الديانة كمانع من موانع الزواج التي حددها الفصل 14 منها على وجه الحصر، وما حصل حقيقة هو إلغاء منشور وزير العدل التونسي المؤرخ في 5 نوفمبر 1973 الذي يمنع ضباط الحالة المدنية وعدول الإشهاد من إبرام عقود زواج مسلمات بغير المسلمين وليس إصدار قانون جديد.

     

فإن كان القانون لم يجعل اختلاف الدين مانعا أمام تتويج الحب فإن المجتمع والعرف كان له دور في إفشال عدد كبير من العلاقات، لا لشيء، فقط لأن صلاتك تختلف عن صلاتي.. كل هذا التجاذب والصراع والخوف من الآخر المختلف عنا متواجد بيننا اليوم في الألفية الثالثة، والأغرب أنك لو عدت قرونا إلى الوراء وقرأت رأي ابن حزم الأندلسي في الحب لصدم كلامه العديد من المتوجسين من الآخر ومن المشاعر البشرية، إذ يقول ابن حزم مفتتحا كلامه عن ماهية الحب: "الحب -أعزك الله- أوله هزل وآخره جِدٌّ، دقَّتْ معانيه لجلالتها عن أن توصف فلا تُدْرَك حقيقتُها إلا بالمعاناة، وليس بمُنْكَرٍ في الديانة ولا بمحظور في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عز وجل" طوق الحمامة ص: 05.

  

ينفي ابن حزم سلطة البشر في اختيار أين تميل وتتجه قلوبهم كي تحط رحالها، ويعتبر ذلك بيد الله سبحانه وتعالى لا غير. كلام في غاية الروعة نحتاج أن ننقله للعالم بأسره، أن ننشر رسالة السلام، أن نعلم الأطفال الحب بدل الكره والحقد. لا تسأل عن عرق ودين وعقيدة صديق ابنك في المدرسة، الصغار لا طاقة لهم أن يتحملوا اختلافات الكبار، فلتدعهم يلعبون الكرة ويرسمون على الجدران ويحلمون بغزوالفضاء. علموا أبناءكم الحب، فبالحب يحصل السلم، وبالسلم يحصل الرخاء ويزدهر العمران.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.