شعار قسم مدونات

عزيزتي البطالة.. شكرا!

مدونات - رجل
شباب في مقتبل العمر، مفعم بالطاقة والحيوية.. يبني ويشيد أحلاما وأماني.. طموح لا محدود. ندرس ونكافح بجد، ونتخرج أخيرا.. الشهادة هاهنا.. فأين الوظيفة؟ نبدأ مسيرة البحث بحماس شديد لبلوغ المبتغى، بقلة صبر وثقة عارمة في النفس والقدرات، فتمر الأيام والشهور ثم السنة..!! لنستوعب أخيرا أننا وقعنا في مأزق البطالة!
معضلة الشباب وأزمة المجتمعات.. مرض فتاك ينهش العقول ويشل التفكير، يجعلنا نقف مكتوفي الأيدي ونحن نشهد على تهديم أحلام شيدت على مدار سبع عشرة سنة، ندخل في صراع لإثبات الذات أمام أنفسنا ومحيطنا والمجتمع ككل. صراع يومي للإجابة عن أسئلة غريبة.. لماذا؟ وكيف؟ وإلى متى؟!… معركة نفسية لمقاومة خيبات أمل متتالية، مع محاولات لجمع أحلام وطموحات مبعثرة، وتقبل واقع مرير وصدمة لم تكن في الحسبان.
تفكير أجوف ومحاولات فاشلة في سباق مع الزمن لإيجاد المنفذ. العقل والجسد منهكان نظرا لكثرة الضغط، وهروبا من كل هذا؛ نلجأ للنوم والوحدة والاستسلام. نختار أن نكون ضحية لنظام سياسي واقتصادي فاسد، في الغالب لا يمنح الفرص إلا لأصحاب النفوذ والأموال، وأشخاص يخوضون في الحديث عن حالتنا إما بشفقة أو باستهتار أو بأي طريقة محبطة تزيد الطين بلة!.. دون أن نحرك ساكنا.. لأننا نتربع على عرش الاستسلام والخضوع.. وتمر أيام وأيام ونحن على هذا المنوال.

هناك وقت للتدبر واستنباط الغاية من وجودنا.. وقت لإصلاح أنفسنا وتطوير قدراتنا.. وبمجرد الدخول في دوامة الحياة، لن نجد دقيقة واحدة لكل هذا! فنحن ابتلينا بزمن السرعة والفتن

و فجأة، يأتي الفرج من حيث لا نحتسب! ربما سيختزل البعض الفرج في هذه الحالة في إيجاد وظيفة ما؛ نعم.. لكن فرج الله الخفي هو أن نفهم ونعي جيدا ما الحكمة الإلهية من كل تأخير. فكل تأخير يوجب وقفة مع النفس؛ نتمعن جيدا في أنفسنا ومجتمعنا بكل عقلياته وسفسطته وتقاليده وقيوده ومادياته… يكبس على أنفاسنا ويجرنا نحو القعر! يحاول بكل قوته طمس الأمل وتهميش الأحلام والأمنيات، لأنه يحاول إخضاعنا لقوانينه السخيفة، التي تحصر حياتنا مسبقا في أربع مراحل متتالية: دراسة، عمل، زواج وإنجاب ثم موت… مستعينا بأنظمة سياسية واقتصادية تدخلنا في قوالبها المشوهة، تسعى لتدنيس نفوسنا وتجعلنا نركض ركض الوحوش في البراري سعيا وراء المال مهما كان الثمن.

وهنا وجب علينا الاختيار! إما أن نستسلم فنتحول لـ"مسخ" تنعدم فيه صفات الإنسان "الحر"، أو أن نثبت.. فنتمرد ونقاوم ونتعلم الصبر، لنعلو ونرتقي بأنفسنا وطموحاتنا. ومن هنا نبدأ مراجعة سلوكنا في الماضي وعلاقاتنا مع الآخرين، لنكتشف بعد ذلك حقائق ما كنا لنعلمها لولا هذه الصفعة! فما اعتقدناه صوابا هو الخطأ بعينه، وربما من اعتبرناه صديقا مخلصا هو في الحقيقة صديق مزيف يدعي الصداقة.. وظهور غرباء أثبتوا لنا الشهامة والنبل في مواقف عدة.. ونِعم لا تُعد ولا تحصى تستلزم الحمد والرضى التام نحن غافلون عنها، ولا نؤدي شكرها ولا نقدرها حق قدرها: صحة، حضن عائلة دافئ، مأوى، أصدقاء أخيار… ووقت!
 
نعم.. الوقت.. تلك النعمة العظيمة والكنز الخفي؛ فهناك وقت للتدبر واستنباط الغاية من وجودنا.. وقت لإصلاح أنفسنا وتطوير قدراتنا.. وقت لإعادة النظر في طريقة تفكيرنا وأفعالنا وتعاملنا مع الآخرين.. وقت لتنظيم أهدافنا والتخطيط لبلوغها.. ووقت لاكتشاف هوايات ومواهب خفية… فبمجرد الدخول في دوامة الحياة، لن نجد دقيقة واحدة لكل هذا! فنحن ابتلينا بزمن السرعة والفتن التي تطمس على الكثيرين حتى تأتيهم الموت بغتة.
 
لنكن على يقين أن الإنسان لن يتعلم حتى ينزف دما، ولن يقدر قيمة النور حتى يتذوق مرارة العيش في الظلام. وبهذا نتسامح مع أخطائنا، فنتصالح مع واقعنا من أجل انطلاقة جديدة
لنكن على يقين أن الإنسان لن يتعلم حتى ينزف دما، ولن يقدر قيمة النور حتى يتذوق مرارة العيش في الظلام. وبهذا نتسامح مع أخطائنا، فنتصالح مع واقعنا من أجل انطلاقة جديدة
  

وأخيرا نبدأ بالدخول في مرحلة النضج الفكري، فنبدأ بالنظر بإيجابية لحياتنا؛ نتعلم كيف نوجه طاقاتنا وقدراتنا فيما ينفعنا، وكيف نتجرع كؤوس الصبر لنخرج أنفسنا من دوامة اليأس، في محاولة للصمود أمام كل التيارات.. فـ"ما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا".

فالبطالة فرصة من ذهب.. ودرس مهم من دروس الحياة، ظاهره عسر وباطنه يسر، لأنه كما قال رب العزة مؤكدا "فَإنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً إنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً" (الشرح: 5،6).. ولا ندري لعل الله يحدث بعد هذه البطالة أمرا لم يخطر على بال، يحتاج لنفوس قوية ثابتة قادرة على مواجهة أمواج الحياة العاتية.. فما ظننا برب العالمين؟
ولنكن على يقين أن الإنسان لن يتعلم حتى ينزف دما، ولن يقدر قيمة النور حتى يتذوق مرارة العيش في الظلام. وبهذا نتسامح مع أخطائنا، فنتصالح مع واقعنا من أجل انطلاقة جديدة بفكر سليم ونفوس مطمئنة راضية تأخذ بالأسباب وعلى ربها متوكلة..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.