شعار قسم مدونات

رهان المرحلة: حقوق الأوطان أم حقوق الإنسان

blogs - war
انغمست هذه الأيام في التنقيب عن أطلال الحركة اليسارية من خلال أدبياتها، خصوصا الحركة الاتحادية والحفر في ما تحتويه من تنظير ورؤى ونضالات احتفظ بها التاريخ لنفسه. وفي سياق هذا التنقيب شد انتباهي مقالة عرضية في آخر صفحات أحد أعداد مجلة "نوافذ"، حاول صاحبها لفت انتباه القارئ إلى أنه في المغرب، منذ 1956، لم يطرح الفرد وحريته أبدا كرهان عمومي…وكان الرهان طيلة هذه المدة، و في سياق الصراع السياسي الدائر بين نظام الحكم وقوى المعارضة، ينصب على "الحريات العامة"، توسيعها أو تضييقها (تأسيس الأحزاب و الجمعيات، ضمان حق الانتماء إليها، ضمان حرية النشاط السياسي، حرية الصحافة وتنظيم الجمعيات…).أما الفرد وحرياته، التي من خلالها تتولد الفردانية التي تشكل النواة التي ينتظم حولها المجتمع والدولة الحديثين، فلم يكونا موضع انشغال سياسي. لذلك لم يظهر الجسد كموضوع سياسي حاسم في إطار الصراع الذي طبع مرحلة ما بعد الاستقلال.(1)
      
إذن، يفهم من خلال ما سبق أن صاحبنا يوجه عتابا للدولة من جهة، ولقوى المعارضة وبالخصوص للحركة التقدمية في أنها أسقطت "رغبة الفرد" من أجندتها النضالية في مجابهة الدولة، وحضر وتضخم عندها هاجس "حاجة الجسد" كموضوع للنضال السياسي والنقابي.
   

إن أي خطاب يتبنى أطروحة "الفرد" وحرياته على حساب "الجماعة"، فإنه يخوض المعركة الخطأ ويساهم في تعميق أزمة وطن يتيم أمام نزوعات فرد طائش

لا أجادل صاحبنا في ما ذهب إليه، وملاحظته في الصميم. لكن أخالفه الرأي في عتابه غير المبرر والذي يخالف طبيعة الرهان الذي كان مطروحا على الحركة الوطنية بعد الاستقلال. فورقة حقوق "الإنسان" في واقع لم يكتمل فيه بعد استقلال البلد السياسي والاقتصادي، وما تزال الدولة تحاول التخلص من إرث الحماية، تخبط وفقدان للبوصلة. لذلك كان من الطبيعي حضور "الجماعة" على "حساب "الفرد"، و"المواطن" بدل "الإنسان". لكن السؤال الواجب طرحه بعد مضي ما يناهز أزيد من 60 سنة على استقلال المغرب، هو هل من المعقول أن تبقى حقوق "الجماعة" مقدمة على حساب حقوق "الفرد"؟ هل ما يزال رهان ورقة الوطن التي لعبتها الحركة الوطنية والمعارضة صالحة لواقع مغرب اليوم (2018)؟
      
أعتقد أن إجابة السؤال السابق لا ترتبط بالسياق الزمني أو التاريخي الذي طرحت فيه المسألة، بل ترتبط بالسبب الذي جعل الحركة الوطنية تتبنى ذلك الاختيار. وكما هو معلوم فإن قوى المعارضة غداة الاستقلال دخلت في صراع طويل مع الدولة حول طبيعة الدولة الوطنية لتقاسم السلطة بينهما، وبالتالي كانت الضرورة تقتضي فتح عين دون العين الأخرى. فالرهان كان أكبر من الفرد وجسده، فالأمر مرهون بمستقبل شعب وسيادته وامتلاكه للسلطة. بالتالي، إذا كانت معركة تقعيد الديمقراطية وتقاسم السلطة هي التي فرضت على قوى المعارضة تهميش الفرد، فهل ما تزال هذه الورقة صالحة للعب بها، أم أن قواعد اللعبة تغيرت وتغير حتى اللاعبون؟
   
لا شك أن قواعد اللعبة تغيرت، أما شكل اللعبة فبقي على حاله، والملاحظ أن الدولة اليوم أصبحت تتبنى الدفاع عن حقوق "الفرد"، بل بلغت حد الزعامة في ذلك مع قليل من التحفظ والمرونة. غير أن ورقة الحركة الوطنية وقوى المعارضة ما تزال ذات راهنية أكثر من ذي قبل؛ فبالرغم من التغيير الذي طرأ على مستوى الظاهر، لكن الواقع يؤكد أن السبب الذي جعلها تتبنى هذه الورقة ما يزال موجودا. لذلك فأي خطاب يتبنى أطروحة "الفرد" وحرياته على حساب "الجماعة" فإنه يخوض المعركة الخطأ ويساهم في تعميق أزمة وطن يتيم أمام نزوعات فرد طائش.

   
ومع ذلك، فليس المطلوب هو سحق الفرد تحت أقدام الوطن والجماعة، لكن لكل مرحلة رهان يتناسب مع حجم تحدياتها. ومن جهتي لا أجادل في مشروعية وأهمية حقوق الفرد، لكن لا يجب القياس على مجتمعات أخرى بيننا وبينها سنوات فلكية. وهو ما أكد عليه الأستاذ عبد الصمد بلكبير في إحدى محاضراته أن الإعلام في الغرب اليوم عندما يروج لأطروحة حقوق الفرد (العلاقات الرضائية بين الجنسين، المثلية، المخدرات…) هو أمر مقبول لأنهم قاموا بحل مشكلة الوطن (السيادة…). وبالتالي فحقوق الأوطان مسبقة على حقوق الإنسان، والأولى بنا النضال من أجل تقعيد حقوق المواطن، ثم بعدها نشيد على أنقاضها حقوق الإنسان.
______________________________________________________
        
(1): عبد الصمد الكباص:الجنس و الجنسية المثلية بالمغرب؛ منظومة التنكر، اقتصاد اللذة،اقتصاد الفقر. مجلة نوافذ العدد 23، أبريل 2004.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.