شعار قسم مدونات

عراق خنزير في يد مجذوم

BLOGS رواية مستور

"والله لدنياكم هذه أهون في عيني من عراق خنزير في يد مجذوم" يقولها سيدنا علي بن أبي طالب واصفا الدنيا، والعراق جمع عرق، وهو العظم الذي عليه شيء من اللحم، وإن كان ما في يد المجذوم يفر منه ولو كان آخر الزاد، فما بالك أن يكون بيد المجذوم عراق لخنزير! هذه الدنيا التي لا تشتهى في نظر الإمام، بل يفر منها كالفرار من المجذوم، تحيل أيام أبطال الرواية وتفاصيل حياتهم وعلاقاتهم الهشة المتمزقة إلى أيام لا يتناولون فيها سوى عراق الخنزير في يد المجذوم.

بينما يظهر احتقار الإمام جليا للدنيا، يقف أبطال الرواية عاجزين عن احتقارها وكذلك عاجزين عن تسخيرها لغاية أو قيادة دفتها في أي اتجاه مكتفين بعيشها، ليس رغبة منهم إنما عجزا عن إنهائها ربما، ويحذو مستور حذو السينما الإيرانية التي تسيطر عليها النزعة الصوفية، في عرض صورة حياتية شديدة الواقعية، فيصبح الفيلم لا يعرض قصة قابلة للحكاية، بل نظرة تأملية مستفيضة في مشهد وحيد ربما في حياة أبطاله، وتقترب الكاميرا وتبتعد لتثير تساؤلاتك لا لتجيب عنها. 

يسكن جميع أبطال الرواية في البناية ذاتها دون أن يعرف أحدهم عن الآخر شيئا يذكر، فمن الأم التي تعيش مع ولدها الموتور الذي يطرح الأسئلة الفلسفية بغير انقطاع، أسئلة مجردة وحسب، لا يمعن البحث حتى للوصول إلى إجابة بل يكتفي بالبحث عن ما إذا اختفت النساء وما إذا اختفى الرجال، إلى المدافع عن حقوق المرأة ولا يجد حرجا من حرمان طليقته من رؤية ابنتها، إلى المصور الذي يحب خطيبته ويحب امرأة تشبهها بالقدر ذاته، إلى الزوج والزوجة اللذين يبحثان عن علاج ولدهما المريض بالسرطان، وتحاول الزوجة تطمين زوجها برواية نماذج شفاء من قبيل المعجزات، ليس تصديقا بوجود معجزات ولكن ليس باليد حيلة، إلى شقة بائعة الهوى التي يقع في غرامها شاعر يبيع الكتب ليتحصل على ثمن اللقاء، يتأملها فقط ليكتب لها قصيدة شعر ثم يغادر، ما الذي يجمع بينهم؟ لو سألت أحدهم لأجاب أنها البناية التي تجمعهم معا.

جسد مستور أفكار الحب السائل بصبغة روائية تستحق القراءة والتدوين والنقاش، وأشار إلى العجلة الدائرة بلا تؤدة التي لا تمهلك أن تدرك نفسك ولا أن يسع قلبك غيرك ولا أن تفر من روحك إلى فضاء أوسع
جسد مستور أفكار الحب السائل بصبغة روائية تستحق القراءة والتدوين والنقاش، وأشار إلى العجلة الدائرة بلا تؤدة التي لا تمهلك أن تدرك نفسك ولا أن يسع قلبك غيرك ولا أن تفر من روحك إلى فضاء أوسع
 

ولكن بتدقيق النظر، ما يجمعهم أكثر من أن يحصى، فتجمعهم اللامبالاة القاسية ويجمعهم فقدان البوصلة والهدف والغاية وتجمعهم سيولة علاقاتهم الاجتماعية وهشاشتها ويجمعهم أنهم دائمو البحث عن اللاشيء، فلا هم منشغلون بالإجابة عن الأسئلة الوجودية الكبرى ولا هم عدميون بالمعنى الفلسفي، ولا هم موصولون بالله أو يحاولون الوصول، ولا هم مرتاحون بتيههم لأنهم لا يدركون أنهم تائهون من الأساس. هم غرقى في تفاصيل حياتهم على خلوها من التفاصيل، راكنون باستسلام مقيت إلى جريان حياتهم بهذا القدر من عدم التفكير ولكن عدم التفكير هذا يقتلهم، كأنهم جمدوا أرواحهم ونسوها في مبرد عملاق وسعوا في الدنيا بالعقل وحسب، عقل لا يجادل ولا يناقش ولا يفهم ولا يريد أن يفهم. ماذا يحدث لو سيطرت هذه النماذج على العالم؟ حسنا، لا أعرف الإجابة ولا يقدمها الكاتب على أي حال فهو يطرح الأسئلة فقط.

أظن أن الكاتب في طرحه للأسئلة هنا يخدم القارئ في المجتمع الذي يراه مستور متخليا عن أسئلته، وكأنه أجاب عن كل الأسئلة منذ زمن بعيد ثم نسيها. اشتريت الرواية وفي نفسي أمل أن تعيدني قراءتها للصفاء الروحي الذي كان في روايته الأولى "وجه الله" التي تقدم الشك كطريق لليقين، يقترب من الأسئلة التي نحظرها ليستخلص لك الإجابة من سويداء قلبك فيقدم السؤال لتصلا معا إلى الإجابة، ويخبرك أن "عدم المعرفة الذي لا يثبت وجود الشيء ولا ينفيه أيضا. نحن نؤمن فقط أو لا نؤمن، هذا جل ما نستطيعه".

 

ظننت أني سأقرأ شيئا بهذا القدر من السكينة والطمأنينة، لكن البارع في الطمأنة ضليع في إشعال القلق، تواجهنا الرواية بأزمات الحداثة بحق، وأراها خير تمثيل لما يراه زيجمونت باومان في رائعته الحب السائل. جسد مستور أفكار الحب السائل بصبغة روائية تستحق القراءة والتدوين والنقاش، وأشار إلى العجلة الدائرة بلا تؤدة التي لا تمهلك أن تدرك نفسك ولا أن يسع قلبك غيرك ولا أن تفر من روحك إلى فضاء أوسع، لتواصل تلك العجلة استمرارها على أجساد وأعمار وقلوب وأفكار أشخاص مثلي ومثلك ولكن ربما تعيد لك الرواية بعضا من خوف قد ظننته تجمد داخل العروق. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.