شعار قسم مدونات

حضارة الشرق وهيكلة السلم الاجتماعي

blogs - boy
"كل يسير.. فإلى غاية يقصدها أو إلى غاية تقصده" 
     
في كون لا يعرف غير الحركة قانونا يبدد السكون، لا ينبغي للعنصر الأسمى بين عناصره ألا يتحرك، الإنسان، بنيان الخالق في الأرض ورمز الإرادة الحرة الذي لا ينبغي أن يعرف الخضوع لغير خالقه. ومنذ حركت الإنسان الأول رغبته في البقاء وسبر أغوار نفسه والعالم من حوله، وكذا سار على عهده أبناؤه سائحين في الأرض استكشافا وامتلاكا وهم بين مخرب ومعمر، منذ ساعتها وكل يسير، فإلى غاية يقصدها أو إلى غاية تقصده.
   
وسمو الغايات من سمو الأنفس ودناءتها من دناءاتها، وشرعية الوسائل قرينة الحق وخبثها من سواد الباطل، وبالحق يُعرف الرجال، وعلى قدر عزمهم تتحقق الغايات. وإن غاية لا تضع نفع الإنسان في المقام الأول لغاية فاسدة وإن اكتست ثوب الفضيلة، وسير الإنسان يولد في ذهنه تساؤلات تستحث مقدرتة الفطرية علي حتمية إيجاد حلول يفهم بها نفسه وما حوله ليجيب عن تلك التحديات الناجمة عن تلك التساؤلات، وبهذا يُنتج الإنسان الحضارات. فبناء الحضارات في أصله حركة وسير وسعي، وهو ما يجعل الإنسان كعنصر من عناصر الكون متسقا مع قوانين الحركة، لكن أتُرانا نحن أمة العرب والإسلام نتحرك؟ وإن كنا نتحرك فهل نتحرك للبناء أم للهدم؟ 
   

إننا وإن اتصفنا بالقوة أفرادا، فإن جماعتنا لتُجافي أسباب القوة عن رغبة مبررها الوحيد في رأيي انتكاس سلم الرقي الاجتماعي ليضع أسافل الأمة ومجرميها فوق الأعناق ويهبط بأسودها وعلمائها ومخلصيها إلى الدرك  الأسفل من الشقاء
إن أمة تعودت السكون حبا في الراحة أو خوفا من التحديات لجديرة أن تبقى في ذيل الأمم. وما أعجبها من أمة، فما إن تتحرك حتى تسير على غير هدى من أخلاق سيدتها لألف عام أو يزيد. ألا ما أعجب بواعث هذه الأمة كأنها تُسير نائمة أو مغيبة إلى مورد هلاكها. إني لأخشى سيرها تابعة وهي القائدة بطبعها، فإن لم يكن كل السير محمود فليس كل السكون مذموم، وإنني وإن أردت لها أن تسير فإنما عن قصد وليس سيرا اعتباطيا، فمما أُوحي إلينا في كتاب عزنا أن سيروا في الأرض فانظروا، أفلا تتفكرون، أفلا تتدبرون، أفلا تتذكرون، أفلا تعقلون.
    
إن الأرض ملك لمن أراد الله لهم استخلافا، وليس لمن يسعى إلى غير مراد الخالق منه ليجعل من نفسه ألعوبة المتنكرين للأخلاق الساعين وراء الظلام الكارهين للجمال المستعبدين للبشر منزوعي الرحمة ميتي الضمير. الحساب حتما سيطال الخليفة المهمل المستغني وكاره البشر المستعلي المتجبر، وبين هذا وذاك تتوزع مسؤوليات ضخمة على عاتق من يعي وسط هذا الموج الهادر من المُنومين من البشر السائرين في الحياة رغبة أو قسرا.
   
 لهذا فلتكن الغاية واضحة قبل السير، وليكن سيرا محمودا يُبقي أثرا للقادمين من الخلف لعلهم به يهتدون. وليكن سيرا لا يلغي بعضه أثر بعض لعشوائيته، وإنما نظام تُركب فيه الحركات الصغيرة ليتكون عرضا مذهلا يدهش الإنسانية ويدفعها للعودة إلى صراط الخالق المستقيم. 
   
وعلى عاتق كل منا يقع اختياره للنتائج الإجتماعية لسيره، فالمرء يملك أن يسير في الناس سير الشمس ضياء والقمر نورا، أو سير الثعالب فتنة والثعابين سموما. وفي زمن القوة يتمايز السائرون بين راغب ومُجرب ومقهور، ولست أحصر القوة في ناحيتها المادية وإنما أُجيزها لتشمل جانبها المعنوي أيضا. وإننا وإن اتصفنا بالقوة أفرادا، فإن جماعتنا -وأعني أمتنا- لتُجافي أسباب القوة عن رغبة مبررها الوحيد في رأيي انتكاس سلم الرقي الاجتماعي ليضع أسافل الأمة ومجرميها فوق الأعناق ويهبط بأسودها وعلمائها ومخلصيها إلى درك الشقاء الأسفل.
   
إذن، ليكن السير غايته إعادة هيكلة السلم الاجتماعي ليرتقيه أولو الأحلام والنهى وليهبط إلى دركه أتباع الظلام. ولست أرى في الفترة القادمة غاية تعدل هذه شرفا أو تنازعها منزلة أو تعدلها مقاما. ويبقي السؤال كيف يُقَوم هذا الانتكاس؟ لا أجد وجها واحدا للإجابة يمكنني أن أعول عليه، خاصة وأن هؤلاء الشرفاء الذين نفكر الآن في أن يرتقوا السلم الاجتماعي مستعبدون ومستضعفون ومعزولون عن الفاعلية الاجتماعية، لكني سأضم الوجوه تبعا لغاياتها، وغاية الأمور الحكمة، وهي وضع الشيء في موضعه اللائق.
   
على الشرق الذي يملك نصف كنوز الدنيا، وما أنتج سوى فقر وجهل ومرض بعد أن نسي حضارته، أن يجعل قيادته لأهل الفضل والعلم ولن يكون ذلك دون وعي حقيقي تعاد به هيكلة السلم الاجتماعي
على الشرق الذي يملك نصف كنوز الدنيا، وما أنتج سوى فقر وجهل ومرض بعد أن نسي حضارته، أن يجعل قيادته لأهل الفضل والعلم ولن يكون ذلك دون وعي حقيقي تعاد به هيكلة السلم الاجتماعي
    
ووجه الحكمة في ما أرى، تحرير الإرادة البشرية بطريقتين، أولاهما حجب السموم قاتلة الإرادة التي يتنشقها الناس من أوساطهم الاجتماعية من تسطيح عقولهم وتسفيه أحلامهم وعرقلة خطواتهم وتفريق ذات بينهم حتى ليرضى أحدهم أن يُؤكل الثور الآخر الأبيض. ساعتها ينشط الناس حين يتنسمون هواء لا سموم فيه، فتنتعش إرادتهم. 
     
والطريق الثاني إيجابي يعزز الوعي بحرمة الإنسان وحرمة ماله ودمه ويرشد إلى الحكمة الإلهية من استخلافه في الأرض ليسعى في تعميرها وتعبيد الناس لخالقها، ويُقوي الجانب الأخلاقي الذي تميز به أهل الشرق الذين صدروا للعالم أديان السماء التي تنزلت عليهم ليُقام للإنسانية صرح من حضارة أخلاقية ترعى قدسية البنيان الذي أوجده الله في الأرض، الإنسان. وتلك برأيي مقويات للإرادة لن تفت فيها سموم رد الفعل الهمجي الذي يستتبع كل رغبة حقيقية في إيقاظ البشر من سُباتهم العميق، لكن النتائج مضمونة فالوصفة مُجربة. 
     
وإن الشرق الذي يملك نصف كنوز الدنيا، وما أنتج سوى فقر وجهل ومرض، بعد أن نسي حضارته التي أنارت العالم، سيحصل على سعادة حقيقية تتفجر ينابيعها من بين يديه ومن خلفه إن هو جعل قياده لأهل الفضل والعلم، ولن يكون ذلك دون وعي حقيقي تعاد به هيكلة السلم الاجتماعي.
  
وإليك قارئ كلماتي أقول … "إن الوعي هو السلاح الحاد، وهو الطريق لعودة حضارة الشرق مرة أخرى، فتسلح به حال سيرك واجعل منه ترياقا توقظ به من حولك. وإعلم أن حركة في غير موضعها تضر ولا تنفع، وأن غاية لا يكون منها خلاص البشرية لأدعى لأن تُترك. وإن لم تكن قوسا في الحق فلا تكن سهما في الباطل".

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان