شعار قسم مدونات

سحابة في باص

BLOGS - BUS

فوجئت بمعلمتي الآنسة شذى، ولها رائحة ممحاة معطرة خالدة، تجلس على المقعد المقابل لمقعدي في الباص الصغير الذي يسع أربعة عشر راكبا جلوسا، ومثلهم وقوفا، ويطلقون عليه في الكتب المدرسية اسم الحافلة، وكنت قد غامرت في رحلة قدرها مسافة ثلاثين فرسخا إلى مدينة القامشلي لشراء مجلة ميكي الأسبوعية، وكانت أول مغامرة سفر لي من غير هدى أو دليل، وكنت أقصد المكتبة، واشتريت ميكي، ومعها كتيبين من كتيبات الجيب، ورأيت ميكي الجيب أول مرة. واشتريت أول مرة مجلة تان تان المصورة المسلسلة، وعدت سعيدا بالغنيمة إلى حافلة الإياب، لكني لم أستطع قراءتها بسبب دوخة السفر التي أعاني منها وتسبب لي الغثيان، وحاولت الهرب منها لكن المقاعد كانت قد احتلت واستعمرت بركابها المسافرين العائدين، ولو كنت أعرف أني سأقابلها لارتديت أحسن حلة، وخرجت أعزلا من قلم الحبر.

    

 وشعرت بالحصار والشدّة. لقد لقيت من سفري هذا نصبا، وأحسست بأن قلم الحبر في جيب بنطالي يضايقني ويشكمني ويحدُّ من حركتي، وأنه أكبر مما كنت أظن، أو أن جيبي صغير عليه، وكانت أقلام الحبر جديدة علينا في الخدمة الدراسية، كانت إعلانا عن مرحلة جديدة، وكنت سعيدا به، وكان هدية، ولم تكن أقلام الحبر الجافة معروفة، هكذا قررت معلمتنا سوزان، سننتقل من حقبة العصر الرصاصي الذي يمحى بالمماحي إلى حقبة العصر الحبري الثابت الراسخ. الرصاص الذي تزيله رياح الممحاة طفولةٌ، والحبر الأزرق فروسية ٌورجولة.

     

تبادلنا الابتسامات، وتهت بين شعوري بدوخة السفر التي غالبتها، ودوار الانتقال من الطفولة إلى أول عتبات الفتوة، فشذى أجمل المعلمات في المدرسة؛ خداها الورديان، عيناها النجلاوان، شفتاها الممتلئتان، أنفها الأقنى، كل وجهها مصنوع بإتقان، وقدها فصيح، عامر، طويل، ممتلئ، ريّان، وهي أكثر تبرجا ونضارة من زميلاتها، وهي تتفجر أنوثة وصبابة، وهي تعلمنا الأناشيد والرياضة، وهي علوم سهلة ومبهجة، واحترت بين الشعور بالأمومة والرهبة، والفتوة والرغبة، تقذفني هذه الموجة إلى تلك الموجة في بحار المشاعر المتلاطمة.

    

 اقتربت مني ومدت يدها إلى مجلتي، فاقتربت مني غيمة الشذى والعطر، فحلقت في السماء من غير أجنحة، فاعتدل من جديد مزاجي وارتدّت لي صحتي وعافيتي وسكتت دوختي وسكن دوار البر، وراحت تتصفحها، فأحسست بالفخر والعزة وارتفاع منسوب الشرف الرفيع، وسألتني عن المجلة التي يبدو أنها لم ترها من قبل، فأخبرتها أنى أواظب على شرائها، وأنتظرها من ضفة الأسبوع إلى ضفة الأسبوع، ورأيتها تقرأ طرائف المجلة وتضحك، فكأني أنا أضحكها، وأزيد وجهها إشراقا وإصباحا، ونسيت دوختي، فكأني ألقيت مرساتي إلى جزيرة.

    

حاولت إصلاح شأني وهندامي، ورحت أبحث عن مفاتيح الكلام التي ضيعتها في صحراء التيه، ونسيت الدوخة، أول مرة أنجو من الدوخة، ووجدت علاجا لدوخة السفر، وهي أن تسافر معي الآنسة شذى، هي دواء علتي وشفاء سقمي

كنت اختلس النظر بين الحين والحين اليها وانا أغالب دوخة السفر، فأجد السماء وقد انقشع غيمها، وألازم النظر إلى آفاق بعيدة تلبية لوصية طبية بمقاومة الدوخة. وأعالج هيئتي بين الحين والحين، وقلم الحبر الصلب يشدُّ على الوثاق، وأكاد استغيث فأما مّنا وأما فداء حتى تضع الحرب أوزارها. وأعاتب نفسي كيف نسيته في جيبي، ربما اصطحبته حتى أغيظ صحبي به، علامةً على الفروسية والخيلاء والفتوة، وشعرت مع كرهي لوسائل السفر أن الحافلة سريعة، وأني سأخسر بعد نصف ساعة جائزة هذا اللقاء الذي جاء على غير انتظار، هدية من الله، وكيف سأثير حسد زملائي وغيرتهم وانا أروي قصة رحلتي مع الحسناء شذى التي يشبه شذاها شذى الممحاة المعطرة.

       

 وانتهت الحسناء من تقليب المجلة، التي كانت تطير وتخفق بأجنحتها في سماء يديها، وكنت أسترق النظر إلى وجهها، فتغمرني سكينة، وأجد نفسي محلقا في ملكوت الأحلام والرؤى وحقول النعمى، وطلبت مني أن أناولها ميكي ففعلت. وحدث حادث ظريف، فقد استغاث السائق بي وناداني بكنية لم أعهدها من قبل، وأشار إلى أحد الركاب وقال: هات الأجرة يا أبو الزلف. من هو أبو الزلف؟ وقلّبت الكنية في رأسي فوجدتها حسنة، فقبلتها، وقلت في سري: لبيك وسعديك، والمجد كله بين يديك.

      

 ونهض أبو الزلف، ولم يكسل ولم يتبلد، بحذر حرصا على قلمه الثمين، وأصلح شأنه حتى لا ينكسر، وترك مجلته على المقعد، وقصد الراكب وكأنه سيبارزه حتى الموت ويستأصل شأفته، فسلبه الغنيمة، وسلمها إلى السائق بفروسية واعتداد، وأعاد للراكب بقيّة الفكّة، فنحن لا نهضم حقوق الخصوم في الحرب ولا في السلم. وَإِنّا لَقَومٌ لا نَرى السلم سُبَّةً، إِذا ما رَأَتهُ عامِرٌ وَسَلولُ. وعاد أبو الزلف إلى مجده المخلد وعرشه بجانب ملكة الرحلة.

    

 وحرصت على الجلوس بحذر حرصا على القلم الثمين، ووقف السائق لراكب طارئ على الطريق، فصعد، فتطوعت له بعرشي كله، حتى آتي لشذى بآية على فضلي، وإذا صحوت فما أقصر عن ندى، وكما علمت شمائلي وتكرمي.  لكن الراكب لحسن حظي رفض وأبى، وقال إن محطته قريبة، ولا تستحق عناء الجلوس وإجلاء فارس مثلي من مثابته، كيف لا تستحق وأنت ستفوز بمجالسة أجمل معلمات مدرسة الغزالي أيها الغبي الأحمق، ستجلس في حضرة الجمال والعطر، أو قاب قوسين أو أدنى من ذلك، لعله خشي من الفتنة، وأدرك انه قد يغرق في لجة بحار العطر، حتى إذا بسط يده لم يكد يراها، شكرته من أعماقي، فلم أكن مخلصا في كرمي. شكرا لعامر وشكرا لسلول.

   

 وقالت شذى: أحسنت، أكثر من المطالعة والقراءة فإنها تحسّن من ملكة الإنشاء وبناء عمارات الكلمات، وتوسع المعرفة والأفاق وتزكّي النفس، فرأيت سنا بريق ريقها على أسنانها يذهب بالأبصار، وشممت عطرها من خيشومي، وهي تنحني علي مثل شجرة زيزفون يمتد ظلها ألف عام، يجري الفارس تحته ولا يصل، وعببت من ذلك العبق في صدري، وحبسته حتى كدت اختنق، ثم حكمت على ريحها، فقلت هذه ليست رائحة أم، أمهاتنا رائحتهن رائحة حليب وعائلة، هذه رائحة ربيع الشباب وحقول الأبدية. حاولت إصلاح شأني وهندامي، ورحت أبحث عن مفاتيح الكلام التي ضيعتها في صحراء التيه، حتى كدت أموت من العطش، فكنت كمن يركض وراء سراب، يحسبه الظمآن بقيعة، والحافلة صار اسمها الحفلة، ولها أجنحة وتطير، ونسيت الدوخة، أول مرة أنجو من الدوخة، ووجدت علاجا لدوخة السفر، وهي أن تسافر معي الآنسة شذى، هي دواء علتي وشفاء سقمي.

   

 حطت الحفلة أخيرا في محطة الإياب، فاستيقظت من حلواء حلمي. وودعتني شذى مصافحةً، وكأننا ندان وقرينان وزوجان، وجرّت وراءها غيمة العطر أسيرة في الأغلال والأصفاد، وخلت الحافلة، وأقوت وطال عليها سالف الأمد، وانتهت الحفلة، وحلَّ السكون، سوى من غنائم الوحشة، وبقيت وحدي، وشعرت بالدوخة من جديد، ووقفت مثخنا بالمواجد، فأحسست ببلل، كان قلمي قد انكسر، ووجدت أنّ بنطالي ملطخ ببقعة دم زرقاء كبيرة، فتحاملت على جروحي ونزلت، وقررت ألا أخجل من آثار الهزيمة، فهي من ميراث المعركة والملحمة وضريبة اجتياز مرحلة الطفولة الفضية إلى مرحلة الفتوة الذهبية.

   

نزلت أمشي في الشارع متباهيا بوسام البقعة الزرقاء، غير آسف على قلمي، وأنا أجر ورائي  غيمة عطرها، كنت أمني نفسي بغنائم لا تنتهي من ذكريات الصور والمجلات والمغامرات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.