شعار قسم مدونات

إرهاصات عيد الحب في أوطان مفلسة

blogs - love
هو إذن عيد الحب، لا يختلف هذه المرة إلا في عدد السنين التي مرت دون أن ندري أن قطار العمر مضى بما فيه الكفاية دون أن تتوقف دقات القلب عن الحب، وهل علينا دائما الاحتفال بيوم واحد وبإمكاننا جعل السنة بأكملها عيدا للسعادة دون استحضار تضحيات القساوسة والرهبان؟ وهل المشكلة تكمن فيما يعنيه الاحتفال بهذا اليوم وبُعده عن قيمنا الدينية والاجتماعية أم فيما قالت الروائية أحلام مستغانمي أنها لا تفهم "أن يكون للحب عيدٌ، ولا يكون للفراق عيدُه أيضا، عيد يحتفل فيه العشاق بالقطيعة، كما لو كانت مناسبة سعيدة"؟
   
أنا أيضا لا أفهم أن يكون للحب عيدٌ..! ولا يكون للبؤس يومهُ الذي يحتفل به المواطنون، طالما أن مساحة البؤس الكبيرة في أوطاننا ستجعل لهذا العيد معنى كبيرا، وهو يمس شريحة أعظم من تلك التي تعنيها تضحيات القديس فالنتين. ما أتعس المحبين وهم يحتفلون بعيد يفقد معناه، لشباب يرى الأفق مسدودا أمامه، شباب رهن حياته بمغامرة يركب فيها قوارب قديمة ومغشوشة للانتقال إلى الضفة الأخرى من المتوسط، بحثا عن العيش الكريم والحرية، وربما عن حب ضائع بين جنبات قصر الحمراء، حيث وقف الدمشقي ذات يوم مع وارثته الجميلة وهي تحدثه بكل فخر عن زهو أجدادها:
      
يا ليت وارثتي الجمـيلة أدركـت
أن الـذين عـنتـهم أجـدادي
عانـقت فيهـا عنـدما ودعتها
رجلا يسمـى "طـارق بن زياد"
        

الملايين من البشر من المحيط إلى الخليج، وفي بحثهم عن العيش الكريم وعن الحرية وعن الإحساس بالعدالة، سيتغذون بقليل مما يُتيحه هذا الشعور الجميل، الذي يجعل للعيش معنى بين الأفراد

هل حقا استحق هذا اليوم أن نحتفل به أم أن حالة اليأس التي يعيشها الإنسان في أوطاننا هي التي تجبره على التمسك بأي شيء للشعور بالسعادة، في واحات تنبذ الأمل، والعيش فيها هو أبعد ما يكون عن السعادة؟ حتى تلك اللحظات المسروقة من كوكب الأحلام، سرعان ما تزول تحت ضربات البطالة، والفقر، وأزمة السكن، وهي التي تقلب الأمر إلى حزن وسخط ونقمة، إنه الوصف الدقيق للحالة ونقيضها من ذات الشيء الذي وصفه "جبران خليل جبران" في كتابة النبي، "حين يستخفك الفرح، ارجع إلى أعماق قلبك، فترى أنك في الحقيقة تفرح بما كان يومًا مصدر حزنك، وحين يغمرك الحزن تأمل قلبك من جديد، فسترى أنك في الحقيقة تبكي مما كان يومًا مصدر بهجتك". ولعله نفس الأمر الذي غنته "فيوليتا" في أوبرا فيردي التراجيدية "لا ترافيتا": "دعنا نعيش للبهجة وحدنا، طالما الحب، مثل الزهور، سرعان ما يذبل".

   
لطالما ارتبط الحب بكرامة الإنسان وعنفوانه، وبغيره ما كان ليكون، عنترة ابن شداد العبسي، كان يود تقبيل السيوف لأنها لمعت كثغر حبيبته:
    
فوددت تقبيل السيوف لأنها
لمعت كبارق ثغرك المتبسم
    
كما كانت قصائده أيضا مزيجا من الغزل والكبرياء والفروسية التي لا ترتبط فقط بالقوة والشجاعة بقدر ما ترتبط بالقيم والأخلاق التي تربى عليها جيل عاش في البادية وعرف المعنى الحقيقي للحب:
     
إني امرؤٌ سَمْحُ الخليقة ماجدٌ
لا أتبعُ النفسَ اللَّجوجَ هواها
ولئنْ سأَلْتَ بذاكَ عبلة َ خَبَّرَتْ
أن لا أريدُ من النساءِ سواها
    
وحتى عزة المتنبي وافتخاره بنفسه لم تمنعه من التغزل بإحداهن وهو الذي قتل بسيف "فاتك بن أبي جهل"، بعد أن عاد من هروبه ليثبت أنه صاحب الخيل والليل والبيداء.
     
وما كنت ممّن يدخل العشق قلبه
ولكن من يبصر جفونك يعشق
أغرّك منّي أنّ حبّك قاتلي
وأنّك مهما تأمري القلب يفعل
    
هل نملك شجاعة عنترة، وعزة المتنبي، للاحتفال بهكذا يوم في ظل ما تعانيه الأمة من خيبات؟ وهل يوجد بيننا حاكم كالمعتصم ليستجيب لصرخات الحرائر؟ بل هل توجد فتاة كليلى العفيفة تستجدي قومها وحبيبها البراق؟
   
ليت للبرّاق عينا فترى
ما أقاسي من بلاء وعنا
يا كليبا يا عقيلا إخوتي
يا جُنيدا ساعدوني بالبكا
   
الأكيد أن الملايين من البشر من المحيط إلى الخليج، وفي بحثهم عن العيش الكريم وعن الحرية وعن الإحساس بالعدالة، سيتغذون بقليل مما يُتيحه هذا الشعور الجميل، الذي يجعل للعيش معنى بين الأفراد، في أوطان انتشر فيها اليأس والحقد والفشل، وأصبح هدر الدماء في كثير منها، أمرا ملهما لشياطين الإنس ممن بيدهم أمور هذه الأمة التي أفلست واختلفت الأرواح التي تسكنها في كل شيء، حتى في الاحتفال بيوم الحب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.