أذكرُ أنّه كانَ يومًا طويلا وشاقا ينقصُه فقط أن ترمي بِحِمْله مِن فوقِ جسرٍ مُعلّق من جسورِ قسنطينة الجميلة، متأملًا تُرسِلُ صلواتك من هناك، مطمئنا أنّ الإجابة آتية لا محال، مودعًا لأفكارك المُتأرجحة، مُرحّبًا باليقين، إلاَّ أنَّ ثمَّة مَن سرقني مِن لحظةِ التأمل تلك؛ هو صوتُ حوارٍ يدورُ مِن خلفي بينَ فتاتيْن تتناقشان في موضوعٍ يبدو أنّه يهمُّ إحداهما، لمْ تكُن نيّتي أنْ أسترقَ السّمْع لكلامهما فقد كان الطريقُ إلى الجسرِ مزدحمًا بالمارّة، وكان المشيُ بسرعةٍ صعبًا وصوتهُما عالٍ بما فيهِ الكفاية لأتمكنَّ مِن سماعهما بوضوحٍ تام.
قالتْ لصديقتها: إذا أردتِ أن تكتشفي حُبّه لكِ؛ ما عليك إلاّ أن تبتعدي عنهُ لأيامٍ، هكذا دونَ سببٍ محدد، وإذا وجدتِهِ في الليلة التالية مُتسمِّرًا أمامَ منزلكِ، فهذا يعني أنّ أمرك يهمُّه. أعادَني هذا الحوار لتلكَ الفتاة التي قالتْ يومًا لصديقتِها في محلٍّ للألبسة، عندما أعجبتْها قطعةٌ من الثيابِ باهظة الثمن: أحضريهِ معكِ في المرة القادمة، وأخبريهِ أنَّ هذه القطعةَ أعجبتكِ، فإذا بادرَ واشتراها لك، فهو يحبّك ومهتم لأمرك.
لا شك أنّ لكلّ منّا مفهومهُ الخاص عن الاهتمام، فقد يكونُ بالنسبة لنا كلمةً جميلة، أو طردًا محشُوًّا بأسئلة مُلحة، أو مفاجآتٍ كثيرة، وقد يكونُ لسوانا وقوفًا على حافة الانتظار أمامَ أملٍ ضعيف، وقد يكونُ للبعضِ الآخر سيْلًا لا ينضب من الهدايا وحتى الأموال. أمّا أنا فلطالما كنتُ مِن الذينَ تشدُّهم قصصُ الاهتمامِ المُفرِط، أجدُه ذا قيمةٍ مَعنويةٍ أكثرَ منه مادية ملموسة، كَكتابٍ بداخلهِ رسالةٌ تحملُ عطرَ صاحبها، أو مكالمةٍ تُذكّرُني أن ما مِن أحدٍ أحبُّه قد نسيَ عيد ميلادي. إنّهُ ذلكَ الاهتمامُ الذي يأتي كَتَبنٍّ أو كمحاولةِ انتشالٍ من القاع.
| الاهتمام الحقيقي أن تسقي قلب من تحب، فينبت وردا جوريا، أحمر اللون، عبِق الرائحة جميل المنظر، أن تجد في صمته حلاوة وفي حديثه متعة |
لذا أتأثر برسالةٍ تبعث بها جودي أبوت إلى سميث صاحب الظل الطويل دونَ أنْ تتوقع منهُ الإجابة، ولكنّها مع ذلك تنتظرُه لأنّها تعلمُ أنّه سيكتبُ لها في النهاية، فأعيشُ معها تفاصيل مراقبتها لخبرٍ منه حتى إذا ما وصلها ذلكَ الخبر، أجدُني أقفزُ نحو البريدِ لأستلمَ عنها الرسالة، وأطير معها فَرِحة. فلا أجملَ مِن أن تتلّقى رسالةً ورقيةً ممّن تُحب، كتبَ صاحبُها فيها كلّ مشاعرهِ بقلبِه، وصبَّها في ورقٍ تفوحُ منهُ رائحةُ عطرهِ المفضّل.
أو ربما أتخيّلُ نفسي "بيلار سانشيز" التي اهتمَّ بها "مايلز هيلر" في رواية "صانست بارك" للكاتب العظيم بول أوستر، وأخذَ على عاتقِه أنْ تكونَ هي مِحورَ تفكيرِه، ووجدَ فيها طُموحَه الذي يحلُم بتحقيقِه، فسعى لدخولها إلى الجامعة وحصولِها على منحةٍ دراسية، حتى إنّه في لحظةٍ ما وضعَ مشاعرَهُ جانبًا، كي لا تؤثر تلكَ المشاعر على حياتِها، فقد كانَ يعتبرُها قطعةً صغيرةً من الحظ، تعثَّرَ بها في حديقةٍ عامة كما وصفها، لم ينجذبْ إليها لأنّها حسناء فائقةُ الجمال أو لأنّها الفتاة الأذكى، ولكنّ انجذابَهُ كانَ "للطريقةِ التي تنظُر بها إليه، قوة نظراتها، الكثافةُ الشديدة في عينيها حينما تصغي إليه وهو يتكلم. إحساسُه بأنّها حاضرةٌ كليًّا حين يكونان معًا، وكأنَّه الشخص الوحيد في الوجود بالنسبة إليها". لا يكون الاهتمامُ اهتمامًا؛ حتّى يكونَ مُتبادلا، أو تشعرَ بأنَّ في قلبِ مَن تهتمُ بهِ ذرّةَ رغبةٍ في ذلك، فالاهتمامُ كما الحب، يعتمدُ هو الآخر على "ذكاءِ المسافة".
الاهتمام الحقيقي أنْ تسقيَ قلبَ مَن تحب، فينبتَ وردًا جوريّا، أحمرَ اللّون، عَبِقَ الرائحةِ جميلَ المنظر، أن تجدَ في صمتِه حلاوةً وفي حديثِه مُتعة، أن تستأنسَ بالخوفِ عليه فيأكلكَ ذلكَ الخوف دون أن تشعر، أنْ تُسافر إليهِ دونَ رغبةٍ في العودة فَتُعانق روحُكَ روحَه، ويستعصي عليكَ إفلاتُها، أنْ تتذكر كلّ التواريخ التي جمعتكُما بتفاصيلها، أنْ تنطقَ بالكلمة التي يودُّ قولَها قبل أنْ تخرجَ منه، أنْ تمتلئ بهِ فلا تجد مُتّسعًا لسواه، أنْ تُراقبَه وتتمنّى لو يتوقف الزمانُ قبلَ اللّحظةِ التي يبتعدُ فيها عنك.
أنْ تجعلَ مِن قلبكَ وسادةً يتّكئُ عليها كلّما ضاقَ عليهِ الزمان وثَقُل، أنْ تكونَ وطنَه ومدينته التي يُسافر إليها كلّما سُدّت الأبوابُ في وجهه. أن تتمسَّك بالصبرِ لتبقى قويًّا من أجلِه، حتى إذا ما ضعفت، أَعاركَ كتفًهُ تستندُ عليهِ كَمُتعبٍ افترشَ صخرةً لينامَ عليها بعدَ عناءِ رحلةٍ طويلة، أن يتحدثَ أحدُكما إلى الآخر "بطريقةٍ رائعةٍ تجعلكَ تظنُّ أنّك ستقضي ما تبقى مِن حياتك دون أن تُصابَ بالملل". أن تبتئسَ دونَه وتسعدَ معَه فتختصرَ كلّ الأشخاص والدنيا فيه وحده، أنْ تقف عاجزًا في كلّ مرةٍ ترغبُ بأنْ تفاجئه فيها، أن تطلبَ المَدَد فتكونَ يدُهُ حاضرةً لتنتشلكَ وتحتضنك.
فإيّاكَ والاهتمام الذي يأتي مِن جانبكَ فقط، إنّهُ كالحبُّ مِن طرفٍ واحد، ضربٌ من الجنون وجلدٌ للذات. فطالما لم يُعِرْكَ الطرف الآخر اهتمامًا فلا معنى من أن تتوسَّدَ الأبواب وتطرقَها عابثًا وأنت تعلم أنَّ قلب مَن يقفُ خلفَ هذا الباب بيدِ شخصٍ آخر. لا تضعْ ضِمادًا على جروحِ كرامتك في كلّ مرة يصدُّك فيها، فما مِن أحد سيتألم سواك، حاولْ أن تجدَ باب الخروج بمفردك دون أن تُطرد منهُ يومًا، وقُمْ بِرَدمِ حُفرةِ الوهم التي بنيتها بنفسك، وسُدَّ منافذَها جيّدًا، فالنَّسيمُ الآتِي من طرفهم قاسٍ، كريحٍ عاتية، قدْ يحملُ قلبكَ معه، ويهوي به من قمة جبلٍ إلى وادٍ سحيق.
إعلان
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

