وليس غريبا أن تكون ردّة فعل والدة الشهيد عند تلقّيها خبر اغتياله واستشهاده بكل هدوء ورضا بقضاء الله وقدره، وقولها "إنّا لله وإنّا إليه راجعون، من حضن إمّه إلى حضن أبيه، الحمدلله الحمدلله.."، فقد ودّعت منذ 16 عاما والده، فوالده شهيد قائد مقاوم، تعرّض ما تعرّض له الشهيد أحمد من مطاردة وحصار وجروح حتّى أنّ الأب الجرّار فقد يده ورجله جرّاء الإشتباك مع قوّات الكيان الصهيوني في اجتياح مخيّم جنين، ولم يرض بجلوسه على كرسي الإعاقة نتيجة إصاباته؛ فظلّ ثائرا مقاوما حتّى حوصر واستشهد في مدينة طوباس بعد اشتباك شرس مع قوّات الكيان الصهيوني. وفوق ذلك كلّه كانت هديته من أبيه التي أكّدت هويته وتعَرف أمه عليه هي مصحف كريم كتب عليه أبوه "إلى إبني أحمد". حتّى أنّ المصحف الكريم تعرّض لما تعرّض له الشهيد أحمد من إطلاق للنار وحصار.
بيولوجيا قد أورث الشهيد نصر جرّار ابنه المقاومة والفداء من دمائه الزكيّة الطاهرة، وقد أنشأه مسلما ملتزما على عقيدة الإسلام التي سمت وعلت على الأحزاب والحزبيّات، فكانت البيئة التي نشأ بها الشهيد أحمد جرّار بيئة مقاومة وفداء وانتماء، فمن الطبيعي أن تكون مخرجاتها بطلا شهيدا فدائيا جرارا.
وقد خرجت الضفة الغربية وغزّة مودّعة البطل الشهيد وهي تهتف "عاجل عاجل على الأخبار شيّبهم أحمد جرّار" وزادت في حبّها وتغزّلها به "رصاص برصاص ونار بنار كلنا أحمد جرّار"…، وزادت جمالا على جمال بتغنّيهم له "يا ظريف الطّول"، وهذا ما كان يخشاه محلّلو الكيان الصهيوني وساسته؛ بأن يتحوّل الشهيد أحمد إلى أيقونة وأسطورة ورمز للمقاومة والفداء، ليس لمقاومته لهم فحسب؛ وإنّما بسبب فشل الكيان الصهيوني في اغتياله والوصول إليه ثلاث مرّات، رغم السيادة والقوّة العسكريّة الصهيونيّة على أرض الضفّة وسمائها، ممّا أثبت فشل وضعف هذا الكيان الصهيوني وأظهره على حقيقته بأنّه أوهن من بيت العنكبوت، وبإمكان أي فلسطيني ثائر فدائي أن يخط ويحقّق ما حقّقه الشهيد أحمد جرّار، محطّما بذلك وهم وزيف وقوّة ردع الكيان الصهيوني الذي تغنّى بها كثيرا.
كل ما سبق كان، وما أجمل كونه وكينونته ومكانته في وقتنا وتوقيتنا، لكن الآن في وقت وتوقيت وكينونة الشهيد أحمد جرّار، هكذا سيكون الأمر… سيمر على السرر المرفوعة، ويتّكئ على النمارق المصفوفة، ويمر مبتسما فرحا بأبيه ويقبّل رأسه ويقول له: ما أورثتني إيّاه أورثته لشعبي كلّه، ويمر بقوافل الشهداء التي سبقته، ويطمئن الشهيدة هديل الهشلمون بأنّ الأمر في خليل الرحمن على ما يرام، ويطمئن الشهيد محمد خضير بأنّ الأمر في القدس على ما يرام، ليلتقي بالشهيد أحمد تايه الذي يقول له: لحقتك بعد يومين من نابلس ونابلس تقول لك إنّ الأمور كلّها على خير ما يرام، ويحيّي كل شهيد وكل شهيدة ويقول لهم ما تركت العهد والقسم، ثم يلتقي أحمد جرّار بأحمد النبي الأكرم فيحيّيه ويقول له: أنا أحمد نصر جرّار شهيد ابن شهيد، ثائر ابن ثائر من أكناف بيت المقدس، جراحي وشهادتي فداء للإسلام والمسلمين، غفوت مع سلاحي وزوّادة الزيت والزعتر فاستشهدت مقبلا غير مدبر، فتمدّدت كظريف الطول في جنين لأستيقظ في الجنّة.
ومن ثمّ يعود الشهيد أحمد إلى والده الشهيد نصر ليتبادلا العناق والحديث حول نعيمهم وتضحياتهم و..
لكن بعد رجوعك لوالدك يا أحمد، لا تنس أن "تسلّملنا على أبوك يا أحمد..".
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.