شعار قسم مدونات

هل يتحول شتاء باريس إلى ربيع أوروبي؟!

PARIS, FRANCE - DECEMBER 01: A protester is wounded by a water canon as they clash with riot police during a 'Yellow Vest' demonstration near the Arc de Triomphe on December 1, 2018 in Paris, France. The third 'Yellow Vest' (gilets jaunes) rally in Paris over increased fuel taxes and leadership in the government today caused over 150 arrests in the city with reports of injuries to protesters and security forces from violence that irrupted from the clashes. (Photo by Veronique de Viguerie/Getty Images)

شهدت فرنسا في الأيام الفائتة حراكًا شعبيًا ملحوظًا، ولعل أبرز ما كان يُميز هذا الحراك هو كونه خاليًا من أيّ أيدلوجية أو تبعية فكرية أو حزبية أو نقابية توَّجه المطالب وتنظم المظاهرات، وهو الحراك الذي كرَّس شخصية المواطن المتظاهر، الذي أصبح يتخلص أكثر فأكثر من أي إطار تنظيمي بهدف التجرد من جملة المعايير التقليدية، التي رسمت ملامح التفكير الاجتماعي في مجتمعات الدول المتقدمة وعدد من الدول النامية، فما كانت لتُرفع مطالب اجتماعية إلى الآن حتى تنال "المباركة النقابية"، بل وما هو أكثر وأبعد من ذلك، حتى تدور في كواليس الحوارات المعتادة بين زعماء النقابات والمسؤولين السياسيين -إن لم يكن الوزراء أنفسهم- للاتفاق مبدئيًا -ومن دون علم القاعدة الشعبية- على حد أقصى من التنازلات.

 

هذا هو السيناريو المألوف الذي غيَّره الحراك الفرنسي، حيث أن المشهد الفرنسي كان شعاره من اللحظة الأولى هو "القفز إلى المجهول"، وهو الأمر ذاته الذي جعل الحكومة الفرنسية في حيرة من أمرها، حيث لا يوجد طرف يمكن الجلوس معه على طاولة الحوار والتفاوض معه والوصول إلى حل منطقي معقول تتفق عليه كافة الأطراف، وهو الأمر نفسه الذي جعل رئيس الحكومة الفرنسي يخضع لمطالب المتظاهرين ويعلن تعليق زيادة الضرائب على الوقود؛ لتهدئة الشارع الفرنسي وإخماد شعلة الحراك التي تزداد اشتعالًا مع مرور المزيد من الوقت.

من هنا بدأت الحكاية

انطلقت شرارة التظاهرات على يد جاكلين موراود، وهي سيدة فرنسية تبلغ من العمر 51 عامًا ولاعبة لآلة الأكورديون وأخصائية علاج بالتنويم المغناطيسي تعمل لحسابها الخاص في منطقة تقع في أقصى شمال غرب فرنسا، حيث قامت بنشر مقطع فيديو على حسابها في موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك تتحدث فيه بغضب عن ارتفاع ضريبة البنزين، وما أسمته سياسات الحكومة المناهضة للسيارات، داعية الفرنسيين للاحتجاج على تلك السياسات، وبصورة غير متوقعة؛ انتشر الفيديو انتشار النار في الهشيم، حيث حصل المقطع على أكثر من 6 ملايين مشاهدة ولاقى استجابة واسعة النطاق من قبل آلاف الفرنسيين، ليتم الاتفاق على نقل الاحتجاجات إلى الشوارع يوم السبت الموافق 17 نوفمبر وارتداء السترات الصفراء.

 

حازت مظاهرات السترات الصفراء اهتمامًا عالميًا واسعًا مقارنة بالاحتجاجات الاقتصادية المعتادة، خاصة أن التظاهرات كانت عفوية تمامًا ولم يتم تبنيها أو قيادتها من قبل أيّ من الأحزاب والنقابات

وفي اليوم المحدد خرج أكثر من 280 ألف شخص يرتدون ستراتهم متمركزين حول الطرق والجسور ليشلوا حركة المرور في جميع أنحاء فرنسا بما في ذلك المستعمرات الفرنسية في المحيط الهندي، حيث نددوا بارتفاع أسعار الوقود والضرائب البيئية، وقد أسفرت الاشتباكات بين الشرطة والمحتجين عن مقتل شخصين وإصابة أكثر من 600 شخص.

ولكن ما بدا من الوهلة الأولى أنه كان يومًا للاحتجاج ضد الضرائب على الوقود، تحوَّل إلى موجة كاملة من الاحتجاجات على مدار الأسبوع، فيما تجاوزت مطالبات المحتجين قضية ارتفاع أسعار الوقود نحو قضايا أكثر عمومية شملت عدم المساواة في توزيع الثروة والفروق الواضحة بين النخب الحضرية -التي يميل لها ماكرون كما يزعم المحتجون- وبين المناطق الريفية، كما اتسع نطاق الفئات المشاركة في التظاهرات لتشمل الطبقة المتوسطة والفقراء الريفيين والمُهَمَّشين، في حالة سخط عامة على الوضع الاقتصادي برمته لم تخلُ من بعض أعمال عنف مثل إضرام النيران في الحواجز وتحطيم نوافذ المتاجر الفاخرة واقتلاع إِشارات المرور، احتجاجات وصلت إلى شارع الشانزليزيه الشهير وقصر الإليزيه الرئاسي وصبغت الشوارع الكبرى باللون الأصفر للسترات مع اللافتات المطالبة باستقالة الرئيس والحكومة وحل البرلمان.

لماذا السترات الصفراء؟!

حازت مظاهرات السترات الصفراء اهتمامًا عالميًا واسعًا مقارنة بالاحتجاجات الاقتصادية المعتادة، خاصة أن التظاهرات كانت عفوية تمامًا ولم يتم تبنيها أو قيادتها من قبل أيّ من الأحزاب والنقابات، فضلًا عن التنوع الكبير لشرائح المحتجين سواء من الناحية العمرية أو من الناحية الاقتصادية أو حتى من الناحية السياسية حيث شارك فيها نشطاء من اليسار واليمين وحتى داعمين سابقين للرئيس ماكرون، فئات مختلفة توحدت جميعها بسبب الشعور بالتجاهل من قبل الرئيس وحكومته، وما جمعهم فقط أنهم جميعًا من خارج النخب التقليدية في المدن الكبرى، حيث ينتمي أغلبهم إلى المدن الصغيرة والضواحي والريف الفرنسي، ممن يعتمدون على السيارات للتنقل إلى العمل واصطحاب أطفالهم إلى المدارس، والذين حوَّلت الضرائب على الوقود، معيشتهم إلى كابوس يطاردهم في يقظتهم قبل منامهم.

ورغم عفوية الاحتجاجات وخلوها من المعالم التنظيمية، إلا أنها نجحت في اجتذاب الأنظار بفعل الرمزية الواضحة لارتداء المحتجين لسترات الفلورسنت الصفراء التي يُجبَر كل سائق سيارة في فرنسا على حملها معه ضمن معدات السلامة لارتدائها عند إيقاف السيارة في حالات الطوارئ، وذلك بموجب قانون عام 2008 الذي يفرض غرامة قدرها حوالي 153 دولارًا جراء عدم ارتداء السترة الصفراء بعد تعطل السيارة أو وقوع الحادثة.

ماكرون.. نصير الأثرياء

تمثل الضرائب في فرنسا 60 في المائة من أسعار الوقود بينما تخضع النسبة الباقية للسعر العالمي لبرميل النفط، ووفقًا للحكومة، فإن هذه الضرائب تساعد في تمويل الموازنة العامة للدولة وتحديدًا في المشاريع الصديقة للبيئة والبنية التحتية للنقل، وتتوقع الحكومة أن تحقق منها 7.8 مليار يورو عام 2019.

ولكن يبدو أن تلك الاستراتيجية تصطدم بقدرة أصحاب الدخول المنخفضة على تحمل تكاليف المعيشة وهؤلاء ينظرون إلى سياسات ماكرون الاقتصادية أنها مصممة بالأساس لسحق فقراء فرنسا، أو من يطلق عليهم بالتعبير الفرنسي sans-dents، أو عديمو الأسنان، في إشارة إلى الفقر وعدم امتلاك أي سلطة، ويتأثر هؤلاء الفقراء بشكل مباشر بارتفاع أسعار وقود السيارات وهم يرون أن ماكرون يستهدفهم بضرائبه في حين أنه يتجاهل شركات الطيران الكبرى وشركات الشحن والمؤسسات العملاقة كثيفة الاستخدام للوقود الأحفوري، إلى درجة دفعت بعض المحتجين لتشبيه الرئيس الفرنسي بآخر ملوك فرنسا، لويس السادس عشر، الذي قامت في عهده الثورة الفرنسية. لم يكتف ماكرون بتخفيض ضرائب الشركات و"ضريبة الثروة" على الأغنياء، وإنما قرر تخفيض الإنفاق الحكومي على نظام الرعاية الصحية العامة، ومزايا الإسكان والنقل، وتجميد مشاريع البنية التحتية الرئيسية، والتخلص مما يقرب من 1600 وظيفة في الخدمة المدنية، وتخفيض المعاشات التي تمولها الدولة.

بدأت حركة الاحتجاجات في فرنسا المعروفة بالسترات الصفراء تظهر منها نسخ في أوروبا، من بلجيكا إلى هولندا إلى بلغاريا مرورًا بألمانيا مع مراعاة الخصوصية في كل بلد
بدأت حركة الاحتجاجات في فرنسا المعروفة بالسترات الصفراء تظهر منها نسخ في أوروبا، من بلجيكا إلى هولندا إلى بلغاريا مرورًا بألمانيا مع مراعاة الخصوصية في كل بلد
 
ماكرون وديجول.. وقصة الاحتجاجات

50 عامًا تفصل بين التحركين الاحتجاجيين، ففي مايو 1968، كانت فرنسا تعيش أزمة اقتصادية خانقة حملت دلالاتها وجود أكثر من 500 ألف عاطل عن العمل، ونحو مليوني عامل يحصلون فقط على الحد الأدنى للأجور، إلى جانب ارتفاع كبير في أسعار المواد الأساسية وإيجارات المنازل، فضلًا عن تدهور الاقتصاد وانتشار البطالة، كان يدير البلاد وقتها بطل الاستقلال الجنرال شارل ديجول الذي وجد نفسه في مواجهة حرب اقتصادية كانت أقسى عليه من الحرب العالمية الثانية، حين وجد نفسه وحيدًا في مواجهة الشوارع الغاضبة في 13 من مايو 1968، حيث أُعلن الإضراب العام الشامل الذي وصف بأنه أهم إضراب في تاريخ فرنسا، كونه جعل البلاد تعيش حالة شلل تام لأسابيع، في حين انتشرت المظاهرات في الشوارع وعمت الفوضى البلاد وسقط جرحى وقتلى في مواجهات مع الشرطة.

وعلى الرغم من أن الحكومة نجحت أواخر مايو في توقيع اتفاق مع النقابات يرفع الحد الأدنى للأجور بنسبة 35 في المائة، إلى جانب امتيازات أخرى لصالح العمال، فإن الغضب استمر، مما دفع ديجول لحل الجمعية الوطنية (البرلمان)، وفي 30 من يونيو 1968، جرت انتخابات برلمانية حقق فيها اليمين فوزًا مهمًا، بأغلبية 293 من أصل 487 مقعدًا. ومع حلول أبريل 1969، وفي محاولة منه للخروج من الأزمة السياسية الخانقة، دعا ديجول الشعب الفرنسي للمشاركة في استفتاء بشأن إصلاحات تهم مجلس الشيوخ ومشروع اللامركزية الإدارية، وتعهد بالاستقالة إن جاءت الأغلبية ضده، وبالفعل، استقال ديجول بعدما صوَّت 52.41 في المائة ضد الإصلاحات التي تقدم بها، وتم ذلك في الليلة نفسها التي جرى فيها الاستفتاء، منتهيًا بذلك عهد ديجول السياسي وإلى الأبد.

السترات الصفراء والربيع الأوروبي

بدأت حركة الاحتجاجات في فرنسا المعروفة بالسترات الصفراء تظهر منها نسخ في أوروبا، من بلجيكا إلى هولندا إلى بلغاريا مرورًا بألمانيا مع مراعاة الخصوصية في كل بلد، وبدأت الاحتجاجات تتمدد كبقعة الزيت وتسري عدواها في عواصم أوروبا، وقد تعرضت تلك الاحتجاجات لنفس ما تعرضت له ثورات الربيع العربي من التشويه ووصفها بالتخريب والتدمير من قبل الإعلام المحلي، فهل بعد نجاح أصحاب السترات الصفراء الفرنسيين نرى اشتعالًا في تلك العواصم الأوروبية مرة أخرى حتى تحقيق العدالة الاجتماعية التي طالب بها الفرنسيون أم أن حكومات تلك العواصم قد وعت الدرس جيدًا وسوف تستدرك أمرها قبل انتشار اللون الأصفر في شوارعها التي لم تكن تعرف هذا اللون من قبل؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.