لِمَ؟ لِمَ يا ربي يحدث كل هذا معي؟ ما هو ذنبي الذي اقترفت حتى يعاقبني الله بهذا؟ لم أقطع من صلاتي فرضاً، ولم أقطع يوماً رحماً، لم أُغضب أبي ولم أتأفف بوجه أمي أبداً، لم أظلم أحداً والحِلم عن المسيء لدي صفة وعادة، لم أتوانى يوماً عن تقديم المساعدة لسائلها، والله أعلم بما أقول، ألم يخبرنا الرسول أن "الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه" أين عون الله عني؟ ألا يرأف بحالي وينقذني من محنتي هذه؟! فرصة العمر تضيع من بين يدي وأنا أقف مكتوف الأيدي في شارع قاحل لم تمر به سيارة واحدة على غير العادة! ومركبتي الحمقاء تتعطّل دونما سبب منطقي، لو لم أتفحصها مساء البارحة لَلُمْتُ نفسي، ولكن من ألوم الآن؟ تنّهدت تنهيدةً أثقلها الحزن والغم ثم تعوّذت من الشيطان واستغفرتُ الله على ما هذيت. دقّت ساعتي، لا بد أن طائرتي قد أقلعت للتو، أقلعت وأقلع معها كل أمل، وحطّ في قلبي كل همِ وغم!
دَلَف البيت وكأنه غير الذي عرفته منذ سنواتٍ طوال، غير الذي ودّعته فجر اليوم، استفهمته عمّا حصل ولكنه لم ينبس ببنت شفة، ارتمى في السرير، غطّى رأسه على غير عادته ونام، لم أجرؤ على قول أو فعل أي شيء فحاله تلك لم تمر عليّ من قبل! وانتظرت غيمة الهم والحزن السوداء التي غطّت سماء وجهه أن تنقشع!
استيقظتُ من النوم ولا أدري كم من الوقت قد مضى، ظننت للحظة أن ما كان لم يكن سوى كابوساً حتى تنبّهت لحالتي المزرية وملابسي التي ارتديتها قبل الذهاب للسفر، وحقيبتي تقف على باب الغرفة تذكرني بخيبتي، لم يحتمل عقلي حينها التفكير بأي شيء، سرحتُ في الفراغ وعينيّ معلّقتان بالسقف، ولم يخرجني من فراغي هذا سوى خبراً عاجلاً نقلته إحدى المحطات على التلفاز الذي لا اذكر بأني قمت بتشغيله!
سمعتُ صوتاً يشبه البكاء، بكاءاً كان للنحيب أقرب، ولكن من يبكي؟ لا يوجد سوى أنا وزوجي في المنزل، هرولت مسرعةً إلى حيث نام، واذ به يبكي، ينتحب، ويتمتم بما لا يُفهم، فزعتُ لرؤيته بهذه الحال، كان بوضعية سجود، رفع جذعه ولَحِقَت به يديه، دفن بهما وجهه، وعاد ينتحب ويتمتم من جديد، لم أعد أحتمل، جلستُ بجانبه أمسح دمعه وأحاول أن أستفهمه، هدَأ روعه قليلا وأشار لي باصبعه نحو التلفاز قائلاً "اقرأي الخبر". عاجل: سقوط طائرة صباح اليوم كانت متوجهة نحو بريطانيا، ولم يخرج أحد من ركابها سالما! كانت هذه الطائرة التي من المفترض أن تنقل زوجي على متنها إلى بريطانيا لإتمام صفقة العمر على حد قوله!
القرآن كلمات الله الكريمات، خَبُرَ ضعفنا فصبّرنا بها، خبر حزننا فواسانا بها، خبر ضياعنا فهدانا بها، خبر جهلنا فعلّمنا بها لمن تدّبرها منا وتأملها، وفوق كل هذا يجزينا بقراءتها الأجر والثواب |
ذاب قلبي من عِظَم لطف الله بي، وانفطرت روحي لخجلي منه على قلة صبري وعِظَم جهلي، تتعطّل مركبتي دونما سبب، وتعود للعمل دونما سبب، فقط ليمنعني قدر الله من وصولي للطائرة واعتلاء متنها، فلتسامحني ربي على ما كان مني ومن سوء ظني ولتغفر لي وترحمني، والحمد لك ربي والثناء بعدد حبات المطر النازلات والعاقبات في النزول، لك الحمد ربي بعدد دقّات الساعة يوم الأزل الى يوم الدين، لك الحمد ربي بحجم السماء وأرضها، لك الحمد بعدد ما أزهر الربيع وما سيزهر، ولك الحمد ربي حتى يبلغ الحمد منتهاه.
كان ذلك اليوم عصيباً عجيباً، إلّا أنه غيّر حياتي للأبد، فلم يسبق لي أن فهمتُ الأقدار كما فهمتها في ذاك اليوم، كنت أقرأ سورة الكهف كلّ جمعة لا أقطعها، ولكني لم أتدبّر يوماً حكيم حروفها ولم أتحرّ المراد من جميل معانيها، لم يجعلها الله لقارئها نوراً ما بين الجمعتين عبثاً، فبها من عظيم المعاني والعبر ما ينير للمرء دروبه المعتمات!
لو تأملنا قصة سيدنا الخضر مع سيدنا موسى عليه السلام لفهمنا معنى القدر، ولم نسخط على أقدارنا مهما بدت لنا مفجعة قاهرة وظالمة! "آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا" هذا قوله تعالى في سيدنا الخضر، وصفه بالرحمة قبل العلم، والعلم الذي آتاه الله له ليس كأي علم يؤتيه الله لعباده، إنه علمٌ بشيء من الغيب، فيعمل بما تظنه عين العقل ذات العلم القاصر، إمرا أو نكرا!
سيدنا الخضر ذو الرحمة والعلم، يمثله لنا الله بالقدر بخيره الباطن وشره الظاهر، وسيدنا موسى _عليه السلام_ الذي لم يؤتى من ذاك العلم والذي لم يصبر على المصائب التي افتعلها الخضر، يمثّل لنا به قصور عقل البشر وعلمهم عن فهم ما وراء الأقدار، فتلك الأقدار أو المصائب التي ارتكبها القدر لم تكن إلا رحمة بأصحابها وما علموا! وبها يعلّمنا الله من أنواع الأقدار ثلاثة.
عندما قام القدر بخرق سفينة الفقراء، لم يصبر سيدنا موسى على هذا الفعل وسمّاه إمراً، فعِلمه القاصر كعلمنا نحن البشر لم يفكر من بعد خرق السفينة سوى بمعاناة الفقراء على متنها من خرقها، لأنه لم يكن يعلم بأن وراء البحر ملكٌ يأخذ كل سفينة غصباً! ولو علم لبادر هو بخرقها لألّا يسبي الملك نساء السفينة ويتّخذ رجالها عبيداً، فكان خرق السفينة منقذا لهم ليس مغرقاً! ربما سيعلم الفقراء بوجود الملك ولو بعد حين، قدرٌ قد يُعلِمك الله برحمة باطنه.
وعندما قتل القدر فتىً شقياً وأُفجعت الأم بفراقه، لم يصبر سيدنا موسى عليه السلام ووصَفه على أنه "شيئاً نكراً" لأنه لم يعلم أن الله سيُبدِلُها خيراً منه يعينها عند كِبَرها ولا يشقيها، ربما لن تعلم الأم برحمة ذلك القدر حتى مماتها. قدرٌ ظاهره العذاب وباطنه الرحمة ولن تعلم برحمة باطنه ولو بعد حين. وعندما دخلا على قرية لا تكرم الضيف ولا تعرف لابن السبيل حقاً، فأبى أهلها إطعامهما واستضافتهما، وعندما وجدا جداراً يريد أن ينقضّ أي يتهدم، فأقامه القدر دونما أن يتقاضى على ذلك أجراً، فلم يصبر سيدنا موسى، وقال له "لو شئت لاتّخذت عليه أجراً"، (لطالما أنهم منعوا علينا الطعام والضيافة)، وذلك لأنه لم يعلم بأن إقامة الجدار كانت لحفظ الكنز لغلامين يتيمين، كان أبوهما صالحاً حتى يبلغا أشدهما فيستخراجا كنزهما ويحسنا وإنفاقه. لطف الله الخفي! شرٌ يصرفه الله عنك، أو خير يسيقه الله لك دون أن تعلم!
القرآن كلمات الله الكريمات، خَبُرَ ضعفنا فصبّرنا بها، خبر حزننا فواسانا بها، خبر ضياعنا فهدانا بها، خبر جهلنا فعلّمنا بها لمن تدّبرها منا وتأملها، وفوق كل هذا يجزينا بقراءتها الأجر والثواب. لو سألتَ أحدهم: "لِمَ تقرأون القرآن" ربما يجيب من فوره: " لكسب الأجر، فقد قال رسول الله_صلى الله عليه وسلّم_: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول الم حرفٌ، ولكن ألفٌ حرفٌ، ولامٌ حرفٌ وميمٌ حرف). ما أعظم كرم الله علينا؛ اذ جعل لنا بقراءته أجراً عظيماً، ولكن هل يحثّنا الله على قراءة كتابه لكسب الأجر أم يحثنا بالأجر لقراءة كتابه وتدبّره؟!
قال عزّ وجل في كتابه الكريم ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ إياك والظن بأن الله عزّ وجل قد أنزل كتابه علينا فقط لكسب الأجر عند قراءته، القرآن كتاب الله العظيم، فيه آياته المحكمات، أنزله من سابع سماء على سيدنا محمد _صلّى الله عليه وسلّم_ عن طريق الوحي وهو أعظم من أن يكون مجرّد طريقة لكسب الأجر والاستزادة من الحسنات، وعطاؤه أجلّ وأكبر، القرآن منهج حياة، وشريعة سلام، لن يصلك من عطاؤه الكثير إن لم تحاول فهم ما تتلوه منه وتتدّبره، فوالله إن فهمت ما تقرأه منه وتتدبّره ستشعر بحلاوته، وجميل معانيه، وستجد له في النفس أثرٌ عجيب، لن تملّ قراءته، ولن تنقطع عنه أبداً وستجد فيه مواساتك في حزنك، والفرج في كربك، والحّل في المعضلات من حياتك وراحتك في تعبك وستجد له أثراً في كل جوانب حياتك كبير.
إن صَعُب عليك الفهم لافتقارك لجوهر اللغة العربية ومعانيها وهي لغة كتاب الله فلا تجعله عائقاً بينك وبين كنز الله في كتابه، فمن المستحسن أن تبدأ بقراءة إحدى كتب التفسير، ككتابٍ للشعراوي، اسمه، خواطري حول القرآن الكريم، كتابٌ جميلٌ جداً، يتكلم بكلمات سهلة، وبسيطة ويوصلك بها الى معانٍ عظيمة. ولا تنسى أن لك أجراً لفهمك آيات الله، ربما أعظم من أجر القراءة المجرّدة من فهم المعنى والمقصد، والله أعلم، فلا تتسابقوا ختمات القرآن وإنما تسابقوا فهمه فوالله ذلك أنفع. ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.