"سأغامر بتصنيف الفلاسفة حسب ضحكهم"
– نيتشه
يحفز الفلاسفة الناس على تهديم المسلمات من خلال طرح التساؤلات حولها والشك في الأشياء العادية والمألوفة، يطلب الفيلسوف من الناس أن يكونوا متشككين في كل مسلماتهم: من حقيقة الأشياء في العالم، إلى التساؤل فيما لو كانت عائلتك بشرا أو روبوتات، ومن هذه الزاوية يظهر أن للفيلسوف والكوميدي أواصر قرابة فيما بينهما، فالكوميدي أيضا يطلب منك أن ترى العالم من زاوية معاكسة: عالم تتحدث فيه الحيوانات فيما بينها وتصبح الأشياء الجامدة قادرة على الكلام والتعبير.
يطلب منك الفيلسوف والكوميدي إذن أن تنظر للعالم كأنك دخيل عليه وكأنك قادم من كوكب أخر. الكوميدي الحقيقي إنسان جريء، فهو يجرؤ على رؤية ما يستحي منه المستمع ويخشى التعبير عنه، ما يراه هو حقيقة الناس، وأوضاعهم، وما يرعبهم ويجرحهم، النكتة تشد الانتباه.. لكن النكتة الجيدة عليها أن تطلق سراح الإرادة والرغبة، ينبغي عليها أن تغير الوضع القائم وهذا بالذات ما يقوم به الفلاسفة بأفكارهم الجريئة والغير متوقعة.
يهتم الانتروبولوجيون بالدعابة لأنه من خلال استخراج أنماط قول النكتة في المجتمع، فسوف تدرك كيفية سير المجتمع، بمعنى أخر، تفهمه سلبا. يجب مقارنة النكات بالطقوس، والطقوس هنا تعني الأشياء التي تستمد معناها من الرموز الاجتماعية، مثلا كطقس الجنازة فبقدر ما تتلاعب النكات بأنماط المجتمع فإن هذه النكات قد تُرى على أنها نقيض الطقوس، فالنكات تسخر من طقوس مجتمع ما وتستهزأ بها، يقول الأديب التشيكي ميلان كونديرا في كتابه الضحك والنسيان: "النكتة مثل قبعة شخص تقع على التابوت في قبر قد حُفر للتو، فتفقد الجنازة معناها ويولد الضحك" يجب تصور هذا المشهد حيث يضع الناس القبعات على رؤوسهم، ويتم إنزال التابوت، إلى القبر وينزل أحدهم رأسه، فتقع القبعة على الفور وينفجر الناس بالضحك.. هذه هي الفكرة: أن الطقس يتحول، إلى نقيض الطقس، وعندها تضحك وتنهار الطقوس المقدسة.
يفصل الفيلسوف بيرغسون بين الكوميديا والتراجيديا بكون الكوميديا تعتمد على الطابع الجماعي أما التراجيديا فهي ذات طابع فردي، فالإنسان يضحك مع الجماعة ولكنه يتألم وحده ويموت وحده |
تقول الانتروبولوجية البريطانية ماري دوغلاس أن النكتة تلاعبُ بالأساليب يتيح فرصة إدراك أن نمطا مقبولا معينا ليس أمرا حتميا، النكت إذن تتلاعب بالممارسات المقبولة في المجتمع وتظهر أن هاته الممارسات ليست أمرا حتميا يجب الانصياع له، يُظهر مفهوم "نقيض الطقوس" في النكت أن الطقوس التي نمارس في الحياة ليست سوى إمكانيات محددة من عدة امكانيات ويمكن تجاوزها وعدم التقيد بها، للنكت وظيفة نقدية للمجتمع وتُظهر أن ما نُعرّفه على أنه ثابت وغير متحرك مجرد إمكانية ويمكن تغييره.
يقول الفيلسوف الفرنسي بيرغسون أنه لكي نفهم الضحك يجب أن نضعه في مكانه الطبيعي، ألا وهو المجتمع وأن نحدد وظيفته وهي فائدة اجتماعية، يجب على الضحك إذن أن يستجيب، إلى متطلبات معينة في الحياة المشتركة وأن يحتوي على أهمية اجتماعية، لذلك تفشل النكات في إضحاك أشخاص من مجتمعات أخرى، إلقاء النكت لعبة لا يلعبها اللاعبون بنجاح إلا حينما يفهمون القواعد ويتبعونها، يذكر الفيلسوف فيتجنشتاين هذه الفكرة في كتاباته ويتساءل كيف سيبدو الأمر إن لم يمتلك الناس حس الدعابة نفسه؟ لن يتفاعلوا مع بعضهم كما ينبغي كلعبة رمي الكرة والتي من المفترض إعادة رمي الكرة فيها لكن عوض ذلك يضعها الشخص الأخر في جيبه.
في كتابه "فارس فارس" يصف الأديب الفلسطيني غسان كنفاني السخرية السياسية بكونها ليست مجرد تنكيتا ساذجا على مظاهر الأشياء، ولكنها تشبه نوعا خاصا من التحليل العميق، تكمن أهمية السخرية في كونها تضع السلطة كوجبة دسمة للسخرية والاستهزاء، لو تأملنا في وضعية البرامج الساخرة في السنوات الماضية سنجد أن دور المعارضة السياسية قد وقع على أكتاف المقدمين الساخرين، في الأوقات الصعبة يلتفت الناس للسخرية، موجة البرامج الساخرة وصلت للعالم العربي عن طريق برنامج باسم يوسف الشهير "البرنامج"، باسم يوسف لم يستثن أحدا من سخريته السوداء التي وصفها بكونها سلاحا ضد التكفير والتخوين وصناعة الفراعنة في مصر.
باسم يوسف والذي يعتبره الكثير مرجعا عربيا في التقديم الساخر يرى أن السخرية وسيلة لجمع الناس كي يتكلموا عن حرية الرأي كما أنها تقدم مواضيع جادة بأسلوب ممتع، الكثير من الناس يرون بأن السياسة مملة لكنهم ينصتون عندما تكون مغلفة بالسخرية، الكوميديا والسخرية تجمعان الناس، يصف فرويد السخرية بشكل عام بأنها تتجاوز القيود والعقبات وتفتح في وجهنا أبوابا للبهجة كانت موصدة دوننا، فهي تتيح لنا استغلال ظاهرة مضحكة في خصمنا لا نقوى على كشفها جادين متعمّدين لما يعترض سبيلنا من عقبات.
يفصل الفيلسوف بيرغسون بين الكوميديا والتراجيديا بكون الكوميديا تعتمد على الطابع الجماعي أما التراجيديا فهي ذات طابع فردي، فالإنسان يضحك مع الجماعة ولكنه يتألم وحده ويموت وحده، وفي بداية كتابه وضع بيرغسون شروطا للضحك لابد أن تتوفر في شخصية المُضحك والظروف المحيطة به ومنها الصلة الإنسانية فالإنسان لا يضحك على جماد أو حيوان إلا في حالة وجود شيء فيه يذكره بالإنسان، والصلة العقلانية فالإنسان لا يضحك إلا على شخصية هزلية أو موقف مضحك إلا إذا تعاطف مع هذه الشخصية، والصلة الجماعية فالإنسان لا يضحك إلا وسط الجماعة ومن هنا نلاحظ زيادة الضحك في قاعة السينما على لقطة فيلم قد تضحكنا بنسبة أقل لو شاهدناها لوحدنا.
ويرى بيرغسون أن الضحك يلعب دور المصلح الاجتماعي فحين يضحك المرء من شخص أخر أو من أفعاله فإنه يلفت النظر، إلى العيوب المسيئة للمجتمع والتي تصيبه بالخلل، ولهذا يضحك الناس على الشخص الأحدب أو النحيل، لقد حاول بيرغسون إظهار السمة النبيلة للضحك لكونه صفة جمعت الإنسان بالإنسانية ولعبت دور صوت الضمير الذي يخاطب الأرواح ويمتد، إلى الأبعاد التي لا نشعر بها، الضحك سلوك اجتماعي بواسطته ينبه المجتمع مشيرا، إلى الحس السليم، كل أولئك الذين ينحرفون عن النشاط الاجتماعي المستقيم والحقيقي والذين يسعون، إلى تفتيت التماسك الاجتماعي.
يقول توماس هوبز: "الضحك هو الشعور بمجد مباغت، حيث أجد أن الأخر مدعاة للسخرية، فأضحك عليه"، يفسر استاذ الفلسفة البريطاني سايمون كريتشل هذه القولة بإعطائه مثالا لو أن شخصا أتى متأخرا، إلى المحاضرة ثم تعثر وسقط على وجهه فسنضحك عليه، هذا ضحك الشعور بالتفوق.
يرى سايمون أنه يجب تحليل النكات العنصرية وعدم الاكتفاء بمجرد منعها بنوع من أنواع اللباقة السياسية، ويضيف أن الدعابة العرقية والعنصرية رجعية ويكمن بين ثناياها إشارة، إلى من نكون في الحقيقة، ويعطي نموذجا بنفسه فهو إنسان أبيض وأستاذ فلسفة جامعي يساري قد تقال ضده نكتة وسيرفض الضحك عليها لكن مع ذلك سيفهم في داخله منطقها، كأنه يدرك أن العنصرية تصف وجوده حتى إن امتنع عن الضحك.. تكشف لنا الدعابة العنصرية أننا أشخاص نفضل بصراحة ألا نكونهم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.