شعار قسم مدونات

بحث عن الخبز أم الديمقراطية؟ هذا ما تعلمناه من الثورات

blogs الثورات و الخبز

ظلت الديمقراطيات العربية، تشكل الهاجس الأول عند النخب، والمثقفين وقادة الرأي والفكر، في حين شكلت الديمقراطية الهاجس الثاني عند غالبية مكونات المجتمعات العربية، بعد ان أعطت هذه الشريحة الاجتماعية العريضة اهتمامها الأول للجانب الاقتصادي، وأولت اهتمامها الأول لتفاصيل الحياة اليومية لاحتياجاتهم الاقتصادية. وما بين الديمقراطية؛ و"الخبز" تنضج العديد من الأسئلة، باحثة عن أجوبة لم يجول في خاطر العباد، حول مسألة التفضيل "الديمقراطية على الخبز، أم الخبز على الديمقراطية" في معادلة لا تخلو من الصعاب.

لم تزدهر الديمقراطيات العربية؛ حتى هذه اللحظة، رغم انها امتلكت مقومات ومكونات الازدهار في لحظة تعد تاريخية، ومفصلية وكان من الممكن أن تقلب التيار بما تشتهي السفن، ولا تعاكسه، على الرغم من حالة النضج الديمقراطي التي غلفتّ السلوك المجتمعي العام في غالبيته، وغلبتّ العام على الشخصي، والموضوعي على الذاتي بعيدا عن أي انتقاص للفهم الديمقراطي ومسلكيته.

المناخ العربي الشعبي العام؛ توافق إلى حد معقول مع المناخ الرسمي العربي في دول عربية عديدة، بل وسارعت دول عربية إلى قطع الطريق على مسار "الربيع العربي" وهرولت تلك الدول إلى إحداث إصلاحات تتوافق مع رغبات الشعب، وتوسيع مظلة التعبير الشعبي أيضا بما يتفق المتطلب الشعبي، متخذة من ذلك وصفة وقائية كي لا تنجر شعوبها إلى تجربة دول عربية، أفرغ بعضها الحركات الشعبية من مضمونها وحولّ مساراتها، وعمل على تجزئتها مهنيا أو اجتماعيا، أو نقابيا، ونجحت تلك الدول إلى حد ما الإمساك بعصا التحولات السريعة من الوسط، وهربت إلى الأمام في عملية يمكن تسميتها "بالخطوة الاستباقية"، لتقدم للمطالبين بالديمقراطية جرعة إضافية تعمل على التهدئة لسخونة مفترضة ومتوقعة في أي وقت.

توضح تقارير لمؤسسات أممية تعنى بالقضايا الإنسانية، أنه من الممكن جدا القضاء على الفقر بطريقة مستدامة، وأن ذلك يقع في إطار التصرف الأخلاقي السليم، والفائدة السياسية

في ظن الكثير من المتابعين لمسار الديمقراطيات العربية؛ إن أنظمة عربية وحكومات، مارست الذكاء السياسي المطلوب، ولم تعمل على ترحيل بند الديمقراطية الموضوع على أجندة الشعوب، إلى وقت آخر؛ إذ لا يلزم الأنظمة الذكية "وجع رأس" ممكن علاجه بوصفات بمتناول اليد والقرار، وبرعت نسبيا في ذلك.. لكنها لم تسلم الجمهور الثاني.

الجمهور الثاني من جموع الشعوب العربية، الذي وضع الديمقراطية ثان أولوياته، وقدّم "الخبز" على الديمقراطية وهو في نظر البعض محق في ذلك، لم تستسغ الفئة الاجتماعية الأخرى مقولة الديمقراطية على أهميتها وشرعيتها، لكنها راحت باتجاه المناداة بتحسين الوضع الاقتصادي لهذه الفئة التي تشكل قطاعات عريضة من إجمالي الشعوب العربية، وتحركت باتجاه مختلف والمناداة ب"الخبز" كرمزية لسوء الأوضاع الاقتصادية.

مسألة تحسين ظروف الناس اقتصاديا، لم تكن سهلة، كما يتصورها البعض، ولا هي أيضا مرهونة بقرار سيادي، نظرا للتبعات الكثيرة المترتبة على مثل هذه الخطوة عند دول تعان أصلا من ارتهان ومديونية تقدرّ بالمليارات، وصندوق النقد الدولي جاهز لرسم الوصفات العلاجية المتأتية من ضرائب إضافية ورفع للأسعار، بما في ذلك مواد على تماس يومي بحياة الناس وأمعدتهم، إذ لا يعقل مثلا أن يصل سعر كيلو "البطاطا" مثلا إلى نحو دولار ونصف في بلد لا يتجاوز الدخل الشهري لموظفيه الرسميين 450 دولار، وفي بلدان اخرى نصف هذا الدخل تقريبا.

وهنا؛ توضح تقارير لمؤسسات أممية تعنى بالقضايا الإنسانية، أنه من الممكن جدا القضاء على الفقر بطريقة مستدامة، وأن ذلك يقع في إطار التصرف الأخلاقي السليم، والفائدة السياسية..؛ لكن من الواضح أن المنظومة الأممية الاقتصادية غير جادة في إيجاد الحلول الناجعة لمثل هذه القضايا، على اعتبار أن المسألة تحتاج إلى الكثير من التعاون الأممي الإنساني؛ وهذا غير وارد في عرف الأخلاق السياسية عند دول عظمى، لا تنظر إلى الحلول بشكل جاد، أو فلنقل غير مكترثة بذلك رغم فظاعة المشهد الإنساني الاقتصادي المترد للعديد من الدول.

صحيح أن الديمقراطية؛ تعتبر الآلية الوحيدة للتخلص من الدكتاتورية وفردية القرار السلطوي، وهي المخرج الوحيد من شيوع الفقر، وتفشي البطالة، وتمدد الفساد؛ وللديمقراطية إن وجدت في صورتها الحقيقية والحضارية، قادرة على الخلاص من آفات كثيرة توغلت في المجتمعات العربية.. ففي الهند مثلا تخلصت الديمقراطية المحترمة في عام 2014 من نحو 40 بالمئة من حالات الفقر المستعصية في البلاد، واعتمد رئيس الوزراء الهندي في ذلك الوقت نارندرا مودوي في ذلك على البحث عن "الأموال السوداء" التي هربتّ خارج الهند تهربا من الضرائب، وقدرت تلك الأموال بنحو 500 مليار دولار.

وما تشهده السودان حاليا من ثورة
وما تشهده السودان حاليا من ثورة "الخبز" أيضا ليس بعيدا عن مضامين المقال، فالخرطوم التي تهتف "سلمية.. سلمية.. لا للحرامية" يعيدنا إلى غياب الديمقراطية وما يمكن لهذا الغياب أن يسببه من ثورات تجيء بشكل مباغت
 

لم تتراجع الهند عن ديمقراطيتها؛ رغم العديد من الأزمات التي واجهتها من حروب مع باكستان والصين ومشكلات داخلية مثل الفقر، بل عززت دور الديمقراطية للفكاك من كل تلك الأزمات التي اعتبرت مستفحلة، لكن كان من الممكن إيجاد حلول لها. التجربة الهندية، لم تجرّب في بلاد عربية؛ وخلف السواتر ثمة "أموال سوداء" يمكن عبر قرار سيادي استردادها وتوظيفها لمحاربة الفقر، والجوع وما شابه ذلك من مشكلات مستعصية في المجتمعات، لكن هذا يحتاج إلى الديمقراطية الحقيقية بصورتها الحضارية والعملية في تعزيز أي خطوة تذهب باتجاه القرار السيادي، وبدون ذلك تبقى المسائل معلّقة ومتهالكة، بل وتتسع دائرة الفقر كلما ضاقت مساحة الديمقراطية والتفّرّد بالقرار.

ولعل ما يحدث راهنا في شارع "الشانزليزيه" في قلب العاصمة الفرنسية باريس، لم يكن بعيدا عما نشير إليه، فهناك ضرائب إضافية، حدّت من "رفاهية" الشعب الفرنسي، فعبرّت السترات الصفراء عن غضبها إزاء ما يجر من رفع للضرائب وغلاء في المعيشة، وارتفعت وتيرة الاحتجاجات تحت حماية الديمقراطية لرفض ما يجري.. صحيح تخلل الاحتجاجات عنف غير مبرر، لكن تبقى الديمقراطية متطلب أساسي.

وما تشهده السودان حاليا من ثورة "الخبز" أيضا ليس بعيدا عن مضامين المقال، فالخرطوم التي تهتف "سلمية.. سلمية.. لا للحرامية" يعيدنا إلى غياب الديمقراطية وما يمكن لهذا الغياب أن يسببه من ثورات تجيء بشكل مباغت بعد تراكمات وصبر نفذ. ربما؛ تقف دول عربية عديدة أمام مفترق طرق، تكمن في تحديد مساراتها لإيجاد حلول مجدية لشرائح المجتمعات التي تحتاج إلى تحسين أوضاع الاقتصاد للناس، من جهة والمضي نحو الديمقراطية الحقيقية، وإلا فستكون النتائج كارثية على أصحاب الولاية الحاكمية الذين يتحكمون بفردية القرار والاستبداد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.