إنني وأنا أدبِّج حروف كلماتِ هذا المقال، أحسب موقناً أننا (مسلمون، عرب) قد أتى علينا حين من الدهر عصف فيه بنا التخلف الحضاري والانحطاط الأممي، ولعل عزاءنا الوحِيد في ظل هذا الكسوف الدامس الذي غشي ظلامه أمَّتَنا الأسيفة: أننا بدأنا نحقِّقُ وعياً ذاتيا بهذا التخلف وإدراكاً له (ولو نسبيا)، والوعي الذاتي هو أول بوادر التغيير وكوادر الإصلاح، إذ لا يمكن أن يَطلُبَ الطّبَّ إلا من كان واعياً بمرضه، أما العليل الذي لم يدرك أنه سقيمٌ فلا يطلبُ الشِّفاء لدائه ووبائِه، وهو حال من لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري.
لكنَّ الإشكال أحياناً يكون في هذا الوعي ذاتِه، من حيثُ وجوده لا عدمه، فهو وإن تحقق لا يخلو من وجهين: إما أن يكون وعياً صحيحا بأصل المُشكلة وعلَّة المرض، فينتج عن هذا الوصف الصحيح للداء توصيف صحيح للدواء. وإما أن يكون وعيا شائهاً نشازاً بعيداً عن أصل المشكلة وفصلِها، وهذا يؤدي إلى إبعاد النُّجعة وإخطاء توصيف الدواء المناسب، مثاله في ذاك من كان مريضاً بالزُّكام أو داء السكَّري فذهب إلى طبيب الأسنان، فهذا لن يؤدي إلى عدم بُرئِه من الزكام فحسب، بل سيُسهم في قلع أضراسه وأسنانه.
وهذا الوَعي العليل الكليل، هو الذي أحسبُ أنَّ إثمه قد باءت بحملِه طائفتان من الناس، في جُلِّ القضايا التي تشكِّل المنطلقَ الإصلاحي الديني الحضاري، إنها طائفة المُفرطين وطائفة المفرِّطين، والقضية التي سأختارها هذه المرة مثالاً لما جَنَت عليه فهوم هاتين الطائفتين، هي قضية التُّراث الإسلامي، لِما أثارته هذه القضية من إشكالات فكرية وفقهية، ولِما سال حولها من مدادٍ كثير وتجمع عليها من كلامٍ كبير.
زعم البعض أن الاجتهاد ليس في كل عصر فرض، وقبعوا وسط رفوف التخلف ساحبين معهم ضلعاً من الأمة ومعرقلين عجلة تقدُّمها |
وإنها في ذلك كلِّه لم تنل من هاتين الطائفتين إلا عجيجا وضجيجاً، بين من يوقد النَّار ومن يريد إطفاءها بالزيت والكبريت، وقد ضاع الحق بين ذلك سبهللاً، وتاهت الحقيقة بين ركام الباطل والجهل والتعصب، والتخلف والتصلف، فأُسيء لهذا التراث من جهة أدعيائه لا أعدائه، فلا كلام لنا مع الطائفة الثالثة التي تكيد للتراث وتنصب له العداء البيِّن، وإنما كلامنا مع أهله الذين يدَّعون نصرته، فيسيئون له من حيث أرادوا الإحسان، حسب ما نحسبهم، والله الحسيب.
أما هذه فقد أضفت على التراث (كاملاً) طابعاً تقديسيا عصمِيّاً، وجعلته في منأى عن النقد والمساءلة والاعتراض، بحيث قيَّدوا عجلة الفهم فيما نصَبوه من فزَّاعةٍ أسموها "السَّلف"، ويكفي أن يَسمع هذا قولاً فيه عنعنةٌ إلى القرون السالفة ليخشع عنده ويجمد ويعطِّل عجلات الفهم والعقل، فهؤلاء لا يعيشون مع بَشرٍ يتدافع ولا في واقعٍ يتحرَّك وعالَمٍ يتغير، بل جنائزهم معنا في القرن الواحد والعشرين وأفهامهم لازالت ترعى في خراجِ العصر الأموي والعباسي، وهؤلاء بحقٍّ لا يقدرون المحنة والفضيحة التي لا يضعون فيها أنفسهم فحسب، بل يضعون فيها التراث الإسلامي بكامله، ويجعلونه عرضةً للضحك والاتهام، والهجران والنكران في ظل هذه العولمة الرهيبة والتغير الأنثروبولوجي والسوسيولوجي المهول الذي أصبح يكتسح عالمنا.
ولا يدري إخواننا هؤلاء أنهم يعيشون في وهمٍ اسمه (الغرباء، الملتزمون)، ورجل من القش زعموا أنه تسنُّنٌ بسَنَن السلف الصالح، فجمعوه بِعُجره وبُجره، أخلدوا إلى الأرض وزعموا أن الاجتهاد ليس في كل عصر فرض، وقبعوا وسط رفوف التخلف ساحبين معهم ضلعاً من الأمة ومعرقلين عجلة تقدُّمها. وناس كثيرٌ من هذه الطائفة وإن كانوا يزعمون أنهم لا يقدسون التراث، فإنهم يفعلون ذلك أو يقتربون، من حيث يدرون أو لا يدرون.
وأما هذه فهي على طرف نقيض الطَّائفة الأولى، فبقدر ما أفرطتِ الأولى نحو الغلو والشدة، فرَّطت هذه نحو التمييع والانسلاخ، وأصبحت لا تألو جُهدا ولا تدَّخر جِدّا في سبيل التبرِّي من هذا التراث بالمرة ودفنه وإجهاضه ووأدِه في مهده، فهي تدعو إلى إحداث قطيعة وطلاقٍ بائنٍ لا رجعة فيه مع التراث، يسرها ويقر عينها أن تحرقه من ذاكرة التاريخ وتبدأ من جديد لا لها ولا عليها، فانظر كيف يرتضي هؤلاء القوم لأنفسهم منزلة الطفل اللقيط الذي يجد نفسه منبوذا في الشارع بلا أب أو أم، وأمعن النظر في دعوتهم التي تريد أن تجعل من هذه الأمة العتيدة أمةً لقيطة لا ماضي لها ولا حضارة ولا تاريخ ولا أصول أو مرجعية عقدية.
فلا توجد اليوم أمة في العالم تتنكر لتراثها وتنبذه، بل لا توجد اليوم أمة بلا حضارة وتاريخٍ إلا أممٌ لقيطةٌ كأمريكا التي أقامت جدران بيتها الأبيض على أنهار دماء الهنود الحمر الحمراء، وكإسرائيل التي عبثت في أوراق التاريخ وحرفت أسفار التلمود لتبني لنفسها وطناً زائفا فوق أشلاء الفلسطينيين، وإن هؤلاء الذين يدعون اليوم إلى طمس التراث أو دفنه، إن لم يكونوا عملاء مدسوسين وخونةً لقضيتهم وعقيدتهم، فهم في حُكمهم من حيثُ سعيهم في نفس طريقهم.
فهل بعد تهجير الأمة عن تراثها الذي يحمل عقيدتها وشِرعتها ونسقها التاريخي والاجتماعي والحضاري إلا العصف والاكتساح؟ وهل بعد ضرب التراث إلا التشريد والتغريب؟ وهل بعد طمس الماضي إلا طمس الحاضر والمستقبل؟ وهؤلاء أيضاً ليسوا على درجة واحدة، فقد جاء بعضهم في صورة المصلح المجدد، وجاء آخرون في ثوب القرآني الذي لا يؤمن بالروايات، وآخر ظهر من خلق قناع الطعن في السلف والخلف.
وإن بين الإفراط والتفريط لاتِّزاناً واعتدالاً، وميزاناً ومكيالاً، يحول بين اختلال كفتي العدل وطيشها، وهو المنهاج الذي سنه الله لعباده في كونه وشرعِه، فمتى حِيد عنه هلك الحرث والنسل، فإذا أردنا أن نحتكمَ التعامل مع التراث إلى هذا المنهج، فسنجد أنه لا يخرج عن أربعة أوجه، هي على التوالي:
الوجه الأول: من حيث التقسيم
إن التراث يُطلق ويراد به رصيد الأمة الحضاري، وتاريخها ومرجعيتها الدينية (الثقافية)، وهذا عندنا ليس على ضرب واحدٍ، بل التراث عندنا تراثان، تراث النص، وتراث العلماء والتاريخ، فأما تراث العلماء والتاريخ فليس على نسقٍ واحد، بدءا من عصر الصحابة إلى عصرنا هذا، لم يكن تراثنا التاريخي يجري على خط واحد، بل فيه الصلاح والطلاح، وفيه الحسنات والسيئات، وفيه المصائب والويلات والمنافع والخيرات، فلا يجب التعامل معه بمقياس واحد، بل ينظر في حسناته على وجه الافتخار، وينظر في سيئاته على وجه الاعتبار، ونظير هذا لم تخلُ منه أمة. وأما تراث النص، فهو ذو مكانة خاصة سامية، بخلاف تراث التاريخ النسبي، ومنهج التعامل مع هذا التراث يتوضح في الأوجه الموالية.
الوجه الثاني: من حيث النقل
وذلك من حيث تبوث هذا التراث من عدمه، فكثيرة هي المدافعات التي تُخاض جدلاً حول تراثٍ وهمي أصلاً، فلا بد أولا للأخذ بهذا التراث أو طرحه أن ننظر فيه من جهة ثبوته، فإذا كان لا يخضع للقواعد المنهجية (التواتر، علوم الحديث) التي تَمِيز لنا التراث الصحيح، فإنه يُطرح، وأما إذا كان ثبوته مقطوعاً به أو راجحاً بظن غالب، فإننا ننظر فيه من جهة الوجه الثالث.
الوجه الثالث: من حيث الفهم
لا يكفي في التراث أن يكون ثابتاً فنأخذه على عواهنه، بل إن منه ما هو قطعي في معناه مُجمع على دلالته، فهذا لا مجال لتعطيله أو رده أو الاجتهاد فيه، ومثلُ هذا لا يخضع لطوارئ الزمن ولا يتقادم أو يتآكل، ومثالُه أصول التوحيد وكليات الشريعة ومقاصدها، فإن هذا الصنف من التراث صالح لكل زمانٍ ومكان. ومنه ما هو فرعي أو ظني مختلف في معناه، وهذا الباب مفتوحٌ فيه لأهل الاختصاص والصنعة أن ينظروا فيه في كل عصرٍ ومصر، وأن يجتهدوا فيه بالضوابط الشرعية العقلية واللغوية (الفقه وأصوله)، ولا تحجير فيه لأهل زمان على زمان، ولا مكانٍ على مكانٍ.
الوجه الرابع: من حيث التنزيل
إذا تحقق كل ما سبق، فإنه لا يكفي مع ذلك أن يُحمل التراث على كل الدهور والعصور، بل يُنزَّلُ وفق مقاصد الشريعة وتبعاً لكلياتها، وباستحضار فقه المرحلة والموازنات والأولويات، وأن يُنظر فيه من ناحية اجتماعية واقتصادية وغيرها من العلوم والأدوات العصرانية التي تحقق صلاح البشرية في تكاملها الديني، ولا يكفي في ذلك مجرد امتلاك التراث، بل حسن توظيفه واستعماله، فقد قال القائل للإمام مالك: أتروي الحديث ولا تعمل به، فقال له رحمه الله: لتعلم أنت وأمثالك أنَّا على علمٍ تركناه. لقد تنازع التراث فريقان وتجاذبه طرفان، المُفرطون والمفرِّطون، والحقُّ أن الحقَّ وسطٌ بين ذلك، فليس تراثنا قدسا مقدسا فنسحبه على الماضي والمستقبل، ولا ترفا مكدسا فننسلخ عنه ونتنصَّل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.