ما من عصر من العصور التاريخية أو فترة من الفترات الزمانية إلا ونلفي الهدف الأكبر لكل إنسان في هذا الوجود هو أن يعيش سعيدا مرتاح البال مطمئن الفؤاد، سواء كان على وعي بهذا الأمر أو غير واع به يعكس أثر ذلك ما يصدر منه من سلوكات وأعمال تضمن له كرامته وإنسانيته اللتين يعتبران ركيزتين أساسيتين لتحقيق هذا الهدف النبيل، وكأنك تلمس من لسان حاله يهتف متسائلا عبر حياته كلها: أين أجد سعادتي؟ كيف أتخلص من شقاء دنيتي؟
لذا فإنا نجد الفلاسفة والحكماء على مر العصور التاريخية قد تناولوا هذا الموضوع واهتموا به غاية الاهتمام، مبرزين أهم المصادر التي تنبثق منها السعادة الإنسانية؛ فمنهم من أرجعها إلى استيفاء المرء كل رغباته وشهواته، ومنهم من عزاها إلى الكف عن تلبية كل تلك الرغبات على اعتبار أن الاستمرار في استيفائها كلها لا يزيد الإنسان إلا قلقا واضطرابا لأنه في نظرهم يستحيل تحقيق شيء غير متناهي، كالظمآن الذي يشرب من ماء البحر لا يزيد بعد شربه إلا ظمأ.
إن مما يندرج ضمن هذا السياق وقد أثار انتباهي كثيرا في آونتنا المعاصرة لدرجة أن كان السبب في كتابتي هذا المقال هو ما تقوم به المدنية الحديثة من تلاعب بمشاعرنا على يد فرختيها المدلَّلتين "العولمة " و "الرأسمالية" بعد أن استحكمت من توجيه عقولنا الوجهة التي تريدها، وكيف توهمنا عبر وسائلها الإعلامية بأن سعادتنا ملك لها تقصرها على فئة دون أخرى، وأن الذي لم يندرج في نمط عيشها ويهرع لاقتناء أحدث المنتجات من مختلف ميادينها التجارية؛ من مطعم ومشرب وملبس ومسكن ومركوب.. ليس له إلا الحزن والكآبة، ومن ثم فالسعادة من نصيب الأغنياء فقط، أما الفقراء العاجزون عن مواكبة الموضة والسير في نمط عيشها الكئيب فلا حظ لهم في هذه السعادة.
لعل من أعمق ما يشعرنا بسعادتنا الحقيقية ولا ندرك كنهه تمام الإدراك هو شعورنا بقيمتنا والإعلاء منها |
والذي يحز في نفسك أكثر أنك تجد شبابا وشابات من الطبقات الفقيرة قد صدقوا هذه الفرية وأقبلوا يهرعون وراء سرابها الحالك متكلفين في اللحاق بها أشد التكلفة، لدرجة إعطائها الأولوية عن حاجاتهم الضرورية التي لا تستقيم حياتهم إلا بها، فصاروا يعيشون معلقين بين سراب الأحلام وبؤس الواقع، واقعين في انفصام شخصي بشع، يحس أحدهم بالتعاسة وخيبة الأمل لمجرد أنه ولد في أسرة فقيرة، وقد أعجبني أحد المفكرين في مقولته الرائعة: "إن الماركات والموضات فرية اختلقتها الشركات الرأسمالية لأجل الأغنياء، فصدقها الفقراء".
والذي يزيد من كآبة هؤلاء أكثر ويحرمهم التفكير في مستقبل أفضل ليضمنوا بذلك فسحة من الأمل تنعش قلوبهم وتثلج صدورهم هو اعتقادهم المنحرف بأن فقرهم هذا من قدرهم المحتوم الذي يلزمهم مدى حياتهم ولا ينفك عنهم إلا بانفكاك روحهم عن جسدهم، فكونك أخي الفقير ولدت فقيرا هذا قدر نعم، لكن ليس من قدرك قطعا أن تحيا طول حياتك فقيرا، لأنك باختصار لا تدري ماذا تكسب غدا، فمن أين لك إذن أن تحكم على نفسك بالفقر طول حياتك؟! كما أن فقرك هذا لا يكون قدرا قطعا عندما تكون هناك أيادي خفية تختلس مالك وتنهب ثرواتك، وتمنع ما أوجب الله عليها من حقوقك، ثم يروج أصحابها بأن فقرك هذا مقدر عليك، لأن القدر الحقيقي إرادة إلهية لا دخل للبشريه فيه.
وبالتالي فلا ينبغي أن تكون مغفلا يختلط عليك قدرك من غيره، فيستغل مصاصو الدماء -وما أكثرهم في وطننا العربي- تصورك الساذج هذا ويجعلون منه طريقا معبدا لامتصاص دمك وانتهاب خيراتك، بل يجب أن تكون نبيها تفرق بين قدرك الذي يستوجب الرضى والخضوع والاستسلام، وبين ما يعزى إليه زورا يستوجب منك انتفاضة يندى لها جبينك، وكفاحا مستمرا يزودك بخير العاجلة والآجلة، فإن اللذة في انتظار الشيء والكفاح من أجله أكثر منها في الحصول عليه!
ولعل من أعمق ما يشعرنا بسعادتنا الحقيقية ولا ندرك كنهه تمام الإدراك هو شعورنا بقيمتنا والإعلاء منها؛ فأغلب ما نتوهمه يحقق سعادتنا هو في الحقيقة يرجع لهذا السر الخفي؛ فعندما نشعر أننا سعداء بمالنا لأنه يعلي من قيمتنا ويحقق رغباتنا، وعندما نشعر أننا سعداء بتفوقنا ونجاحنا لأنه يعلي من قيمتنا، وعندما نحس أننا سعداء بمكانتنا الاجتماعية لأنها تعلي من قيمتنا، وعندما نحس أننا سعداء بقوتنا وسلطتنا لأنها تعلي من قيمتنا، وعندما نشعر أننا سعداء بجمالنا لأنه يعلي من قيمتنا، وعندما نحس أننا سعداء بين أسرنا وأهالينا لأنهم يرفعون من قيمتنا، وعندما يحس الزوجان بالسعادة تجاه بعضهما لأنهما معا يعليان من قيمة بعضهما ويُشعر كل منهما بحاجته الماسة نحو الآخر.
وبما أن ربط قيمة الإنسان بالأشياء والأشخاص لا يضمن سعادة دائمة لانعدامها بانعدام هذه الأشياء والأشخاص يلجأ العظماء من الناس لربط قيمتهم بمدى تطبيقهم للقيم الإنسانية النبيلة التي لا يطرؤها تبديل ولا تغيير؛ من الصدق والعدالة والأمانة والمحبة والمعرفة والنزاهة والشجاعة والكرم والنبل والعفاف.. وغيرها من الخصال الرفيعة، فكلما استحكم أحدهم منها وجعلها سجية من سجاياه أحس بالإعلاء من قيمته وسعادة بعدها تغمر وجدانه، بغض النظر عن أن يعرف الناس ذلك أو لم يعرفوا، أثنوا عليه أو لم يثنوا، فيملك بهذا مفتاح سعادته، ولا يتركها بيد غيره، فمنتهى التعاسة والاضطراب النفسي أن تكون قيمتك بيد غيرك. ولعل هذا هو السر في ورود نصوص دينية تأمرنا باحترام الآخرين والاعتراف بهم، مثل حديث رسول الله "ص": ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا، كما أننا نجدها قد حددت هذا المعيار القيمي للإنسان، حيث جاء في القرآن الكريم: "إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ".
أما الغنى لم يكن في يوم من الأيام هو السبيل الأوحد للسعادة البشرية بل هو من ضمن كثير من الأسباب، كما أن الفقر لم يكن يوما هو السبيل الأوحد للتعاسة، بل هو من ضمن كثير من الأسباب، فلم إذن هذا الإيهام الحاصل بأن الغنى هو الطريق الوحيد للسعادة؟ والتاريخ والحاضر معا يشهدان على أن كثيرا من الأغنياء غاشوا تعساء رغم غناهم، بل منهم من يضع لحياته الحد بالانتحار بعدما وصل به الترف إلى أنه لم يجد شيئا يشعره بلذة الحياة، بينما نجد كثيرا من الفقراء عاشوا سعداء رغم فقرهم!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.