شعار قسم مدونات

جِكْجِكا.. الربيع الإثيوبي بطعمٍ مختلف!

blogs رئيس وزراء إثيوبيا

في صيف عام ٢٠١٧ قرأتُ كتاباً ماتعاً للإعلامي السعودي علي الظفيري عن ثورات الربيع العربي، ودور قناة الجزيرة في دعمها، وتبني خيار رغبة الشعوب الثائرة، حمل الكتاب عنوان " بين الجزيرة والثورة.. سنوات اليأس ورياح التغيّير" وردت في الكتاب عبارة جليلة في قدرها، عظيمة في شأنها، وهي "هرمنا في انتظار هذه اللحظة التاريخية". وهي عبارة تحمل في طيّاتها الكثير من الدلالات والمعاني، وتختزل لنا الموقف بجملٍ مختصرة، مفهومة، بليغة في محتواها ومضمونها. وكأن لسان حال سكان الإقليم الصومالي بإثيوبيا يُعبّر عن نسائم الحرية، بصورة صارخة في مضمون تلك العبارة المذكورة.

 

انتظر الصوماليون، طويلاً، من أجل هذه اللحظة التاريخية، اللّحظة التي عبّروا فيها عن هويتهم الصومالية، وتحدّوا كل الصّعاب بروحٍ وطنيةٍ توّاقة، اشتركت معها بقية القوميات الإثيوبية التهميشَ، وطمسٍ للهويات بصورة ممنهجة، مع سياسة واضحة للتفرقة؛ خدمةً لأجنداتٍ خبيثةٍ تُكرّس الانقسام. الزائر لهذه المدينة -حالياً- يرى بأمّ عينيْه: كيف أن الشعوب تَتُوق للحرية، والانعتاق، وتنتزعها بقوة، ولو من ذوي القُربى؟ نقاشاتهم السياسية، وأحاديث جلساتهم في المقاهي، تدور كلها حول مجموعة مارقة (بتعبيرهم) نفّذت أجندة أقليةٍ، تفنّنت تفكيك عُرى النسيج الاجتماعي، واغتيال كل معاني الوطنية، من أجل مشروعٍ طائفي، اصطدم في النهاية بصخرة الواقع العنيد.

 

ومنذ اندلاع شرارة ثورة الربيع الإثيوبي عام ٢٠١٤، وما أفرزته تلك الثورة، من أحداث جسيمة، رسّمت معالم المنطقة بملامح جديدة، وخريطة جيوسياسية، أخذت على عاتقها مسؤولية روح التحالفات المبتكرة، مع إعادة النظر للتحالفات القديمة. ومع بروز تلك الثورات الجامحة، والطامحة، إلى العلن، كنتُ متردداً الكتابة عن هذا القُطر؛ الذي نشترك معه علاقات الجيرة والتاريخ المشترك، ومآلات الثورة؛ مستكشفين مستقبل الإقليم الصومالي في خِضم تلك التحولات المُتسارعة فوق مسرح الأحداث، وسبب تَردُّدي عن الكتابة -راجع في الأساس- إلى عدة أسباب متضافرة، لعلّ في مقدمتها البُعد عن بؤرة الأحداث، وندرة المعلومات المتوفرة لديَ!

 

وطأت قدمايَ فوق تراب "جِكْجِكا" لأول مرة عام ٢٠٠٩، وأنا في طريقي نحو العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، بتُ فيها ليلةً بوليسيةً بامتياز -بما تحمل الكلمة من معنى- لم يَعرِف النومَ طريقه نحو جفوني

أما وقد زرتُ مدينة جِكْجِكا -العاصمة الإدارية للإقليم الصومالي بإيثوبيا مؤخراً- فقد زال عني الحَرج، وأصبح لزاماً علي كتابة انطباعاتي عن الإقليم، وتقيّيم تجربة الثورة في ظل التحوّلات الراهنة، وانعكاسات تلك الهبة الجماهيرية بقيادة قومية أورومو – أكبر قومية في إثيوبيا ٤٠ مليونا، ويمثلون ٣٤.٤٩% من تعداد سكان إثيوبيا- على حياة الصوماليين في المنطقة، وسقف حرياتهم بعد الثورة. وهناك أسئلة مشروعة تطرح نفسها تلقائياً، هل استفاد الصوماليون من هامش الحرية والمناخ السياسي المتاح؟ والذي هبت نسائمه مع رياح الثورة، وتصدّر الرجل الإصلاحي الدكتور أبي أحمد المشهدَ بكل تجلّياتِه، ومنعرجاته وعلى كل المستويات والأصعدة، وإن بوتيرة مختلفة.

 

جٍكجِكا بين عاميْ ٢٠٠٩- ٢٠١٨

وطأت قدمايَ فوق تراب "جِكْجِكا" لأول مرة عام ٢٠٠٩، وأنا في طريقي نحو العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، بتُ فيها ليلةً بوليسيةً بامتياز -بما تحمل الكلمة من معنى- لم يَعرِف النومَ طريقه نحو جفوني، الشرطة دقّقت هويتي بأسلوب غير لائقٍ، كرّروا أسئلتهم المعهودة: ما الغرض من الزيارة؟ لماذا العبور في جِكْجِكا؟ وكأنني أجنبي منبوذ لا يحق له المكوث في المدينة؛ التي تحرّك من أجلها -يوماً ما-  ٥٥ ألفَ جنديٍ صومالي عام ١٩٧٧؛ فيما يُعرف تاريخياً بـ"حرب تحرير الصومال الغربي".

 

اليوم، بات المشهد مختلفاً، فسبحان مقلب الأحوال! يعيش فيها -في الوقت الحالي- كل الصوماليين بمختلف مشاربهم، لا أسئلة بوليسية تُطارد الغرباء، ولا حتى الشرطة الخاصة "ليو بوليس" تستجوب الزوّار، تغيّرت المعادلة – تماماً- تنفّست المدينة الصعداء، الكل مواطنون متساوون أمام القانون، انتهى عصر الاستبداد والاستعباد، والمخبر السري الجائر! وفي المقابل، بدا لي من بعيد، مظاهر الفوضى، وسوء استخدام حرية القول والتعبير؛ بحجة أننا في مناخ سياسي يتّسم بالحرية، هناك من يعبث بالوئام الاجتماعي بتصرفات طائشة صبيانية منه، وتصفية حسابات قديمة من قِبل ضُعاف النفوس من فلول النظام السابق.

 

تأثيرات سياسية:

لفكّ لغز الأزمة السياسية في الإقليم الصومالي بإثيوبيا، وما يحيط بالإقليم الخامس، من أقاليم إثيوبيا التسعة، من تأثيرات سياسية؛ نتيجة الربيع الإثيوبي الذي أطاح بحكم رئيس هيلا ميريام تسالين، فالإقليم الصومالي ليس بمعزلٍ عن سياسة إثيوبيا، أخذ الإقليم نصيبه من الثورة المضادة؛ وكان عرّاب الثورة المضادة الرئيس السابق للإقليم عبدي محمود عمر، ضرب بعرض الحائط؛ متجاهلاً تعليمات رئيس الوزراء أبي أحمد، وكان من نتيجة ذلك سقوط ضحايا أبرياء في صفوف المدنيين، كادت المنطقة أن تدخل على أثرها بدوامة عنف دامية.

 

حاول عبدي محمود تفعيل البند ٣٩ من الدستور الفيدرالي الإثيوبي؛ والذي ينص صراحةً بأن كل الأقاليم لها الحق في تقرير مصيرها، والانفصال متى ما رأت ذلك ضرورية يُحتّمها الواقع. ولولا تدخل الجيش الفيدرالي لمضى في هذا السبيل المتهوّر، وكانت تلك الإجراءات املاءات فرضها عليه قومية التيغراي.

 

لم يتأثر الإقليم الصومالي سلباً -فقط- إزاء ما جرى؛ بل أخذ أيضاً نصيباً وافراً من الإصلاحات، بعد تعيين الناشط في المجتمع المدني مصطفى محمد عمر رئيساً للولاية؛ خلفاً لعبدي عمر، أجرى مصطفى عدة تعديلات جوهرية تمس مصلحة المواطن، منها: إغلاق سجن "الأوغادين" سيء السمعة، وإطلاق الحريات العامة، والحفاظ على حقوق الإنسان، والحدّ من تدخل الشرطة الخاصة المعروفة ب"ليو بوليس" ودمج علم الإقليم بالعلم الصومالي الفيدرالي؛ للدلالة على أن الإقليم صومالي حتى النخاع؛ نفياً لتهمة ذوبان الهوية الصومالية، واخيراً، تمّ اعتماد النشيد الوطني الصومالي، مع انتهاج حكومة الإقليم بسياسة الانفتاح على المعارضة، وفتح باب الحوار معهم.

 

اليمين رئيس حكومة الإقليم الصومالي بإيثوبيا مصطفى عمر، اليسار وزير الدولة للإعلام بحكومة بونتلاند الصومالية
اليمين رئيس حكومة الإقليم الصومالي بإيثوبيا مصطفى عمر، اليسار وزير الدولة للإعلام بحكومة بونتلاند الصومالية
 
لقائي مع رئيس الإقليم:

جدول عملي أثناء زيارتي الأخيرة إلى جِكْجِكا كان مزدحماً ومنظماً للغاية؛ والفضلُ يعود لمكتب الاتصال الحكومي (وزارة الإعلام بالإقليم) والوزيريْن المحترميْن الأستاذ/ عبد الرزاق السيد نائب وزير الديوان الرئاسي (القصر) والأستاذ/ طاهر عبدي وزير مكتب التعاونيات؛ الذيْن بدلا جهوداً مضنية من أجل تذليل الصّعاب أمامي، لهما مني كل الشكر والتقدير والعرفان.

 

وكان لي لقاء منسّق مع رئيس الإقليم الصومالي مصطفى محمد، قدمتُ له- أثناء اللقاء- مقترحات تصوّب مسيرة التغيير في المنطقة، فملاحظات الزائر- دوماً- تختلف عن المقيم، لشموليتها في الرؤية؛ لأجل ذلك كان حرصي شديداً على تقديم النُّصح له، لتدارك الأخطاء قبل فوات الأوان، وانحصرت نصائحي في المجال الإعلامي والثقافي؛ لأهميتهما في ترسيخ دعائم دولةٍ صاعدةٍ تزخر بالتنوّع الثقافي مثل: أثيوبيا، واتفقنا بتبنّي القوة النّاعمة كخيار للسيطرة على العقل الجمعي الصومالي في منطقة القرن الأفريقي.

 

وفعلاً، ملاحظاتي -على تواضعها-  كانت محل ترحيبٍ عنده، وضعني الرئيس أمام الصورة الحقيقية للإقليم في تنويرٍ استمر برهةً من الزمن، أطلعني على المشاكل التي تحيط بهم، والتي لخّصها لي – فخامته- بالدولة العميقة، وفلول النظام السابق، ورؤيته في اجتثاث هؤلاء من الإقليم " لأنهم يشكلون تحدياً على الصعيد الفيدرالي، ويُعرقِلون مسيرة التّنمية بالإقليم". وأخبرني بأنه سيركّز في الفترة المقبلة ببناء الفرد الصومالي، وإعادة الاعتبار له، عن طريق تقديم الخدمات الأساسية له كالتعليم والصحة وغيرها، والمضي قدماً في مجال حقوق الإنسان، وضمان حرية القول، وإعلامٍ قوي يشعر بالمسؤولية الاجتماعية تجاه شعبه، وليس بوقاً فارغ المحتوى يُمَجِدني، ويدور في دائرة مفرغة!

 

حلول مقترحة لأزمة "أورومو" مع الصوماليين:

منذ ما يَقرُب أربع سنوات؛ أو يزيد، كان هناك فتيل أزمةٍ مشتعلة بين الصوماليين وقومية " أورومو" الشقيقة، بسبب خلافات على ملكية الأراضي، راح ضحيتها مئات من القتلى والجرحى، وتشرّد مليونين من النسمة، أذكى هذا الصراع النظام -الذي تمّ إطاحته بالثورة الشعبية- كجزء من استراتيجيتهم الهادفة إلى شدّ الأطراف، وتفكيك القوميات، وإثارة الفتن داخل نسيجهم؛ لإطالة أمد الصراع، والاصطياد في المياه العكرة.

 

الربيع الإثيوبي بدأ، أول ما بدأ، عندما أرادت الحكومة الإثيوبية مصادرة أراضٍ ترجع ملكيتها للأورومو، ثاروا بوجه الحكومة؛ حتى تمكنوا من إسقاطها واسترجاع ما ضاع من حقوهم، واليوم، يُحاول الأوروميون نهبَ أراضٍ تَرجِعُ ملكيتها للصوماليين في كل من: تولي غوليد، درردوا، بابلي، ومويالي، وكلها في الإقليم الصومالي، يظل السؤال هو: لماذا نرتكب نفس الأخطاء؟ ولماذا يُبيد إخواني الأوروميين إخوتهم في العقيدة من الصوماليين؟! متى نستفيق ويعود لنا الوعي؟ نحن -إذاً- بحاجة إلى ثورة جذرية تُغيّر من مفاهيمنا! ثورة تُعالج المشكلات من أعماقها، وليست مجرد مساحيق تجميلية نضعها كأقنعة زائفة؛ بينما نهضم حقوق الآخرين!

 

وأخيراً، أُوجّه رسالتي إلى دولة رئيس الوزراء الإثيوبي الدكتور أبي أحمد بضرورة الإسراع في إخماد النيران، ووقف نزيف الدم المُتَدفِّق، فقد عرفناك مصلحاً، يحب السلام، كما نجحت في مدّ جسور السلام بين الدولتيْن الجارتيْن إثيوبيا وأرتيريا بعد عقودٍ من القطيعة، ونجحت أيضاً في إخماد الفتنة الدينية بين المسلمين والمسيحيين في "جيما" في الإقليم الأورومي، كذلك نرجو أن تنجح في المصالحة بين القوميتيْن الصومالية والأورومية. وكلي ثقة بأن رسالتي هذه ستصلك دولة رئيس الوزراء المحترم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.