شعار قسم مدونات

العرب والتّملّك العقاري في تركيا.. رحلة البحث عن الاستقرار

blogs عقارات في اسطنبول

جغرافيّاً، تحتلّ تركيا موقعاً استراتيجيّاً على خريطة العالم، موقعٌ شكّل على مدى القرون المنصرمة صلة الوصل بين الشّرق والغرب، فيما يزال البُعد التّاريخيّ يصبغ حاضر تركيا بموروث ماضيها على أكثر من صعيد، داخليّاً وخارجيّاً.

 

محكّ التّاريخ

شهد القرن المنصرم تنامي النّزعة القوميّة عالميّاً، ونال العرب والأتراك نصيبهم من آثارها، حتى بات التّنافرُ سمةً وَصَمَتْ العلاقة فيما بينهم، وعلى هذا الأساس، سُطِرتْ مناهجُ التّاريخ ودُرَّستْ، ولكنْ، وبعد عقود، تبيَّن أنّه لم يكن بمقدور أحدٍ نكثُ ما أحكمه الدّين والتّاريخ من وشائج الصّلة بين عموم العرب والأتراك، لا فرق بعد ذلك أتوافق أرباب السّياسة فيما بينهم أم اختلفوا! في السّنوات الماضية بالذّات، أبرزت الأحداث التي شهدها عديدٌ من دول العالم العربيّ هذه الحقيقة بشكلٍّ جليّ، إذ وجد كثيرٌ من العرب في تركيا خياراً ربّما كان الأكثرَ ملاءمةً للإقامة المؤقّتة، ريثما تتهيّأ ظروف عودتهم لبلادهم.

 

حلمٌ ولكن..

كان الوصول إلى دول أوربّا حلماً لطالما راود الكثيرين من العرب، خصوصاً بعد انعدام الأمن في كثيرٍ من دولهم، ربّما خاطر البعض بحياته لتحقيق هذا الحلم، بل إنّ هناك من دفع حياته ثمناً للحلم قبل أن يصبح حقيقة. في دول اللّجوء، ونتيجة الاحتكاك المباشر، اكتسب اللاجئون العرب خبرةً تّراكميّة أدّت إلى تغيير جملة من المفاهيم التي كانت سائدةً حول طبيعة الحياة في دول أوروبّا بالذّات. نعم، ربّما لم يتوصّل الجميع إلى التّصوّرات النّهائيّة ذاتها، ولكنّ المؤكّد أنّه وبالرّغم من مرور السّنين، لا يزال وعيُ فئةٍ من اللّاجئين العرب، يرفض كلّ محاولات الانسجام مع النّسيج الاجتماعيّ الغربيّ المُغاير، كما يرفض عضوٌ متبرَّعٌ به الانسجامَ مع جسدٍ جديدٍ لانعدام تطابق الأنسجة، ومنهم من خاض بالفعل هجرةً عكسيّة لا تقلّ مرارةً عن سابقتها.

 

العمر يمضي..

ترافقَ استحكامُ التأزّم في أكثر من دولة عربيّة وتأخُّرُ الانفراج المنتظَر سنةً بعد الأخرى مع انفراطِ عقد الأسرة الواحدة وتشتّتِها عبر بلدان متباعدة أحياناً، كلّ ما سبق دفع بالكثيرين مع مرور الوقت إلى محاولة البحث عن حلول حاسمة لِلمّ شمل أسرهم مرةً أخرى.

 

في بلاد الاغتراب… حيث تُلتَمسُ الأوطان
يلجأ الكثير من أصحاب الأموال الفائضة إلى شراء العقارات الثّابتة، خشيةً من المخاطرة في استثمارات غير مضمونة العواقب، فالعقار بهذا المعنى نظيرٌ للذّهب لا يفقد قيمته

بكلّ ما تنوء به النّفسُ من معانٍ متعلّقةٍ بكلمة وطن، لن يكون البحث عن بديلٍ للوطن بهذه البساطة، ولكن يبقى عليك أن تحاول تلمُّس هذه المعاني بين الأرجاء، لعلّك تدركُ منها قدْراً يسيراً يلبّي حاجةً في نفسك، وقد قيل (مالا يُدركُ كلُّه، لا يُتركُ جلُّه).

 

لماذا تركيا؟

إنّ تحقيق تركيا لمستويات عالية من النّهوض الاقتصاديّ والتّنميّة الشّاملة مؤخّراً لا يعني مقارنتها باقتصادات دول غرب أوروبّا، على الأقل من حيث القدرة على أداء المِنَح الماليّة المخصّصة للّاجئين بأعدادهم البسيطة نسبيّاً هناك، مقارنةً بأعدادهم الهائلة في تركيا، الأمر الذي شكّل حافزاً حقيقياً لدى فئةٍ لا يُستهان بها من اللّاجئين العرب لتفضيل دول غرب أوربّا على تركيّا. وفي المقابل، تتعدّد الأسباب التي ماتزال تدفع بكثيرٍ من العرب لترجيح تركيا بلداً للاستقرار ومنها:

 

* حالة الاستقرار السّياسيّ والأمنيّ الّذي تشهده تركيا وخصوصاً بعد انتخابات 2018، الأمر الذي افتقده الكثيرون وكان سبباً جوهريّاً في اتّخاذ قرار الهجرة بالأساس.

* تشابه طبيعة المجتمعات، وتشارك النّمط الثّقافي بين العرب والأتراك في كثيرٍ من جوانبه، ابتداءً بالقواسم المشتركة الكبرى دينيّاً وأخلاقيّاً، وانتهاءً بأبسط تفاصيل الحياة كأنواع الأطعمة والألبسة.

 

* الجوّ التّربوي الملائم، وهو ما شكّل بحقٍّ هاجساً لدى كثيرٍ من اللاجئين العرب في الدّول الغربيّة، وأسفر غيابه عن حالات من التّغريب وإنكار الهويّة الأصليّة لدى كثيرٍ من النّاشئة هناك. وتتعدّد الخيارات التّعليميّة في تركيا كالمدارس العربيّة أو الدّوليّة ثنائيّة اللّغة، أو مدارس الأئمّة والخطباء الحكوميّة، والّتي تتبنّى نهجاً توفيقيّاً بين العلوم بشِقَّيها الشّرعيّ والكونيّ، فبالإضافة لتدريسها الموادّ العلميّة والأدبيّة والفنون، تقوم كذلك بتدريس اللّغة العربيّة، والمواد الدّينيّة كالقرآن، والحديث، والعقائد…، وتتيح مدارس الأئمّة والخطباء لطلّابها الالتحاق بالجامعات التّركيّة كالمدارس الأخرى. جديرٌ بالذّكر أنّ الرّئيس التّركيّ رجب طيّب أردوغان قد تخرّج من مدارس الأئمّة والخطباء، ولذلك شهدت هذه المدارس تطوّراً ملحوظاً في الفترة الأخيرة، وتمّ تزُويدها بأحدث الوسائل التّقنيّة.

 

* قرب تركيا النّسبيّ من الدّول العربيّة أدّى لسهولة الزّيارات المتبادلة بين المقيم في تركيا وذويه في بلده الأمّ، مع توفير قدرٍ كبيرٍ من المشقّة والتّكلفة الماليّة.

 

بعد التّعديل الأخير في قانون الجنسيّة التّركيّة، أصبح من الممكن منح المستثمر الأجنبيّ الجنسيّة التركيّة مقابل شراء عقار بقيمة 250 ألف دولار بعد أن كان بقيمة مليون دولار في القانون السّابق
بعد التّعديل الأخير في قانون الجنسيّة التّركيّة، أصبح من الممكن منح المستثمر الأجنبيّ الجنسيّة التركيّة مقابل شراء عقار بقيمة 250 ألف دولار بعد أن كان بقيمة مليون دولار في القانون السّابق
 
ثقافة التّملّك العقاريّ عربيّاً:

أباً عن جدٍّ، تناقل العرب لأجيالٍ تقديرَ مِلكيّة العقارات بأنواعها من أراض ومبانٍ ودور سكنيّة، ورفعوا من شأنها مع ضرورة الحفاظ عليها مهما دعت الحاجة واشتدّت الفاقة، حتّى جعلوها رديفاً للعِرض والشّرف، فلا تُباع ولا تُشترى فقالوا مثلاً: أرضك عرضك. ربّما لم يعد الأمر كما كان عليه سابقاً، ولكن إلى الآن يكتسب مفهوم التملّك العقاريّ عند البعض فيما يتعلّق بالشّقق والدّور السّكنية صبغةً قريبةً ممّا سبق، حيث تتوارث الأجيال "بيت العائلة" وتحيطه بهالة من القداسة، وربّما يُعزى هذا في جانبٍ منه إلى غلاء أسعار العقارات عموماً في البلاد العربيّة، فيُنظر لهذه الدّار مثلاً كثمرةً لجهود عمرٍ كامل لا بدّ أن تُصان. بالإضافة لما سبق، يلجأ الكثير من أصحاب الأموال الفائضة إلى شراء العقارات الثّابتة، خشيةً من المخاطرة في استثمارات غير مضمونة العواقب، فالعقار بهذا المعنى نظيرٌ للذّهب لا يفقد قيمته.

 

تملّك العقار في تركيا.. أبعادٌ نفسيّة حاضرة وإغراءٌ بالجواز التّركي القويّ

يحقّ لمعظم العرب تملّك العقارات في تركيا دون عوائق تُذكر، الأمر الّذي فتح الباب واسعاً أمام حركة رؤوس الأموال العربيّة في مجال الاستثمار والتّملّك العقاري في تركيا. أمّا بالنّسبة للسّوريّين، فبإمكانهم تملّك العقارات في تركيا بصفة اعتباريّة، وذلك باللّجوء إلى تأسيس شركة، ومن ثمّ شراء العقار تحت اسم هذه الشّركة، أو عن طريق تسجيل العقار باسم مواطن تركيّ موثوق، وخصوصاً أنّ عدداً من السّوريّين قد حصلوا بالفعل على الجنسيّة التّركيّة مؤخّراً. وفي انعكاسٍ لصعود نجم محمد بن سلمان، وتطبيق رؤيته في الجانب الاقتصادي بالذّات، قرّرت فئةٌ من العرب مغادرة المملكة العربية السّعوديّة، بعد أن أقاموا فيها لسنواتٍ، وربّما تمّ ترحيل بعضهم قسراً بعد العمل فيها لعقودٍ، عقودٌ لم تُكسبهم أي حقٍّ في المواطنة أو حتّى الإقامة الدّائمة فيها، فكان هؤلاء بطبيعة الحال آذاناً صاغيةً لأحدث قرارٍ صدر عن الحكومة التّركيّة فيما يتعلق باكتساب الجنسيّة التّركيّة المترتّب على التّملّك العقاريّ.

 

فبعد التّعديل الأخير في قانون الجنسيّة التّركيّة، أصبح من الممكن منح المستثمر الأجنبيّ الجنسيّة التركيّة مقابل شراء عقار بقيمة 250 ألف دولار بعد أن كان بقيمة مليون دولار في القانون السّابق، الأمر الّذي دفع بكثيرٍ من العرب لنقل أموالهم من بعض الدّول الخليجيّة لاقتناص هذه الفرصة. خصوصاً أنّ المباحثات النّهائيّة تجري على قدمٍ وساق بين مسؤولي الاتّحاد الأوربّي من جانب، والمسؤولين الأتراك من جانبٍ آخر، وهذا بعد أن استكملت تركيا الشّروط المطلوبة منها لإعفاء مواطنيها من تأشيرة الّدخول إلى الاتّحاد الأوروبيّ (شنغن)، الأمر الذي سيزيد قوّة جواز السّفر التّركي قوّةً إلى قوّته الحاليّة، حيث يُسمح لحامله بالدّخول إلى أكثر من 72 دولة دون الحصول على تأشيرة دخول مسبقاً، كما يمكن لحاملي الجنسيّة التركيّة الدّخول إلى أكثر من 42 دولة بتأشيرة دخول تصدُر فور الوصول، وأكثر من 7 دول تمنح حامل الجواز التّركيّ تأشيرة دخول إلكترونيّة عبر الإنترنت.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.