شعار قسم مدونات

"تكاثروا".. هل تحول الأمر النبوي لكارثة اجتماعية؟!

blogs لاجئة حامل

في ممر الشركة بينما أنا في طريقي نحو توقيع ورقة في غاية الأهمية، يوقفني السيد "أبو غريب" ويطلب باستعجال أن أكتب عن مواضيع عامة مفصلية، كتلك التي نتحدث عنها باستمرار، مواضيع اجتماعية محورية حقا، مستبشرا بقدرتي على حياكة النص وتطريزه وزخرفته، فطلب مني الكتابة عن التدخين مثلا، ملقبا إياه بالأعجوبة الثامنة، كيف يموت أحدهم على مهل، وبتلذذ، ودونما أي تأثر وبكاء ولطم من طرف المحب له! الحكيم أبو غريب، لا هو غريب ولا يحمل ابنه اسم الغريب، لكن ولسبب ما لازمه اللقب، ومن الغريب أنني في كل مرة أناديه بالأستاذ أبو غريب، لا يخطر بالبال إلا كل تلك المشاهد العجيبة التي شهدتها المنطقة مؤخرا، وبدون ترقيع للمشهد التاريخي على مدى قرن ونحن نرى ما يشيب له الولدان، ما يعجز أن يصنعه مسيخ دجال ذو الرجل المسلوخة بخير أمة أخرجت للناس على وجه الخصوص!

وفي ممر آخر في مستشفى حكومي -ويبدو أن حياتنا تتمحور في الممرات لا في المساحات الواسعة-، بينما أنا متكدسة مع كل أولئك العاجزين عن دفع فاتورة المستشفى الخاص، أنتظر دوري بكل تأفف، بكل ملل وحقد واستشرار، أي كلمة مستفزة ستفجر القنبلة الموقوتة والمدفونة داخل كل "مواطن" مسحوق، ضاقت بلاده بأهله، فأرى سيدة مترهلة في بداية سن يأسها، أو لربما البؤس هو من استعجل البدايات التعيسة، ثوبها وحذائها وتقوس ظهرها وكل دلالات التعب والفقر تكسيها بل تتجلى وتفرقع منها، تركض ممسكة بأوراق بيروقراطية باتجاه قسم الولادة، تسعى الممر سبعة أشواطا ويزيد، وكأنها تنتظر نبعا أن يتفجر، دونما جدوى، فزمن المعجزات انتهى، نحن في زمن المصائب!

السيدة لاجئة سورية، من مخيم الزعتري وزوجة ابنها التي لم تتجاوز الشمعة الثامنة عشر، وضعت مولودها الثالث، "صبي، الحمد لله!" هكذا علقت حماتها ذات الوجه الأبيض المجعد والعينين الغائرتين والوجه المسفوق، قد هده الجوع والشح من كل شيء للحي! وهكذا حملت الطفلة طفلها، عائدة لخيمة البؤس المغروسة في وحل من طين، يستقبلها طفلها الثاني الذي بالكاد يمشي بين الخيم الأخرى حافيا شبه مستور، أين كان وقت مخاض أمه؟ لربما بين الحين والآخر تطل عليه جارتهم في الخيمة المجاورة لتتأكد أن لا عقربة لدغته! أو ترعاه شقيقته الأكبر قليلا تجيد المشي وما زالت لا تجيد نطق الحروف!

من بين صفوف المسحوقين الفارين من الموت الواضح الصريح إلى الموت المقنع البطيء وعلى نار ملتبهة من الذل والقهر، تجد من يقول أن تحديد أو تنظيم النسل "حرام"، فتراه يتكاثر عن سبق الإصرار والترصد

لاجئة تضع طفلا في طائرة، وأخرى تمنعها البلاد المستقبلة من الولادة في المستشفى الحكومي فتلد على الرصيف، وتلك كان المحيط أوسع من رحمها فجاء الوليد في قارب الهروب! فلا جذع شجرة تهزه، ولا عقل ولا توكل، الإحصائيات والمشاهد التي تنتقل عن اللاجئين والمثيرة لكل ذلك التعجب -أو بدون مجاملة- المثيرة للتقزز مما آلت إليه الأمور بل ساءت إليه، تجعلنا نتساءل في كل مرة: كيف يحدث هذا؟

 

وكيف هنا، ليست سؤالا عن الكيفية، بل هو سؤال معنوي مجازي يفور حزنا وغضبا! فعدد المواليد في مخيم الزعتري مثلا بين 12 و15 يوميا! أما ألمانيا فكان من المفترض أن تسجل أقل نمو في عدد السكان كمقارنة بين الوفيات والمواليد، ليتضخم العدد وتسجل أكبر عدد في المواليد منذ عام 1973، هذه الأرقام التي تضربنا وتجلدنا لمن يسكن قطعة قماش، أو فر إلى الغرب كهروب النعجة إلى الذئب الذي بات أرحم بها من الراعي، بعيدا عمن يسكن الجدران وقد أمن سقفه، متناسيا أننا شعوب المعاناة والعالم الثالث نتجرع المرار والهوان في دولنا النامية الفقيرة، لماذا؟ سؤال لا يكفي أن يطرح بهدوء، فكل ما يراودني أن أضرب بكلتا يداي على حافة ما لأشقها نصفين غلا، وأصك أسناني بقوة تقضم المعدن، إن كنتم وبكل أحجامكم وعقولكم لا إطعام لكم من جوع ولا أمن لكم من خوف؟ فلماذا تكومون اللحم البشري في خيمكم؟ 

يقال وما أكثر ما قيل في علم النفس: أن البعض يلجأ للعلاقات الحميمة في الخوف، كنوع من الهروب إلى ساحة آمنة، تشعره بالطمأنينة، ولربما هذه إحدى الأسباب التي تجعل من خيم اللجوء أكبر مكان للتدجين والتفقيس البشري اللاعقلاني، حيث لا وسيلة عيش وتعايش ولا وقت ممتلئ بكل تلك الأحداث الإنسانية الطبيعية الروتينية، ولا انشغال بأي مفيد، وهذا يعد أمرا كارثيا لأن ما يلي العاصفة، تلقائي ومتوقع حدوثه، لكن من الممكن تجنب هذا البلاء لو تجنبنا المسببات وأثرينا بيئتهم ووفرنا لهم سبل العيش الحقة.

 

أما الكارثي حقا أنه ومن بين صفوف المسحوقين الفارين من الموت الواضح الصريح إلى الموت المقنع البطيء وعلى نار ملتبهة من الذل والقهر، تجد من يقول أن تحديد أو تنظيم النسل "حرام"، فتراه يتكاثر عن سبق الإصرار والترصد، بل وحتى أن بعضهن تحمل طفلها ذو التسعة أشهر فوق بطنها المنفوخ فيه الروح، يتكئ عليها طفل ثالث أما الرابع فيجول بين الخيم، والخامس والسادس يتسولون لقمة العيش!

 

ففي بعض بؤر اللجوء تشير الإحصائيات أنه ومن النادر أن تجد عائلة لاجئة يقل عددهم عن الستة أو سبعة أفراد! يسمون أبنائهم بكل ما عُبّد، وبكل الأسماء المحمدية وآل بيته وأصحابه، ثم ينشأ في بيئة فيها من الجهل ما يتعجب منه أبو جهل! لا طعام ولا أمن ولا لباس يواري السوءات ولا تفريق في المضاجع! يتخشب أطفالهم بردا، ويتنشفون جوعا، متسولون مشردون، وفي البلاد المسماة بالحاضنة يتعرضون لكل أشكال التنمر والنبذ ولربما الاختطاف، حتى وصلت الأمور لاستغلالهم والإتجار بهم جنسيا مقابل إطعامهم أو تغيير دينهم مقابل مسكن يليق بالبشر بدلا من خيمة تفر منها الدواب! أو بلاد أضيق من خرم إبرة!

تخبرنا الآيات الكريمة أن لا تقتلوا أبناءكم خشية إملاق، لكنها تذكرنا مرارا وتكرارا أن لا تجعلوا من أهليكم وقودا وحطبا لجهنم، وما هو مصير من ترعرع في بيئة نهارها كليلها
تخبرنا الآيات الكريمة أن لا تقتلوا أبناءكم خشية إملاق، لكنها تذكرنا مرارا وتكرارا أن لا تجعلوا من أهليكم وقودا وحطبا لجهنم، وما هو مصير من ترعرع في بيئة نهارها كليلها
 

إن كل ما في بلادنا العربية عموما أو اللجوء منها خصوصا من أسباب ونتيجة وحال ووبال الأمر، دليل قاطع على عدم قدرتنا توفير البيئة المناسبة للتربية الصحيحة الصحية، فلم يصرّ البعض على وجه واحد وهو تحريم تنظيم النسل أو إيقافه إن تأزم الأمر؟ أين كل رجال الدعوة والأمر والنهي والتحريم والتحليل وأهل الذكر عمن لا يعلمون، لم لا يتم تدشينهم ليتبين لنا الخيط الفاصل بين ما قصده الرسول بتكاثروا وبين كلكم راع وكلكم مسؤول؟ بين "إني مباه بكم الأمم" وبين "بل أنتم كثير كغثاء السيل"؟ 

تخبرنا الآيات الكريمة أن لا تقتلوا أبناءكم خشية إملاق، لكنها تذكرنا مرارا وتكرارا أن لا تجعلوا من أهليكم وقودا وحطبا لجهنم، وما هو مصير من ترعرع في بيئة نهارها كليلها، وإن كان الله لا يحملنا فوق طاقاتنا فلم يصرّ البعض على أن يحمّل نفسه أضعاف طاقته، بل وينسب هذا للنبي العبقري منقذ الأمم محمد، الذي ما نطق إلا بوحي يوحى، والذي ما جاء إلا ليخرجنا من الظلمات إلى النور وليس من الأرحام إلى الدنيا التي كانت عقابا لأبوينا!

وإن العتب الأكبر بل الاشمئزاز من كل تلك "الفيمينيستات" اللاتي يتكاسلن عن تشكيل لجنات توعوية لأولئك الأمهات في مراكز التشرد عن مخاطر الحمل المتكرر دون أخذ حقها من الراحة هي ووليدها، عوضا عن الهراء الذي يفوح من مهرجانتهن الاستعراضية عن كشف النهدين والكتابة عليه وتعرية كل ذلك التجويف في أدمغتهن! فتلك مصيبتنا الأكبر، وكأنه حق علينا ألا يتحدث عنا ويترأس معاقلنا ومراكز تغييرنا وتحررنا وانتفاضاتنا إلا الحمقى منا.

لا نعلم متى ستنتهي دحرجتنا لأسفل السافلين، ولا إلى أين مصيرنا، كل ما يحدث حولنا يحفز للهروب إلى جبل يعصمنا، كلنا نحلم بالهروب أو اللجوء خوفا من طوفان التخلف والجهل والتشرد والقتل والتفريق باسم الدين واللون والجنس والبلد، بينما نحن حل بهذه البلاد التي تفيض فيها الأرحام وتموت فيها صلتها، فتتكدس الأجساد بلا عقول وبمصير حتمه مشؤوم. نزع الله من صدور أعدائنا المهابة منا، وقذف الوهن في قلوبنا، وها قد تحقق الوعد النبوي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.