ما وقع مؤخرا في المغرب للسائحتين الاسكندنافيتين يعيد البلاد مرة أخرى لدوامة الإرهاب والرعب، فبعد اعتقادنا الدائم أن يد الإرهاب لن تطال المغرب ثانية جاءت حادثة منطقة إمليل كصفعة لتوقظنا من الأحلام الوردية وتزيل الغشاوة على الاستثناء المغربي ومفهوم الإسلام المعتدل الذي طالما طبلنا به. صور الجانين والخرجات الإعلامية لذويهم وأهاليهم تتسم بالعفوية وملامح البساطة والفقر والحزن، هم مغاربة بملامح ليست غريبة عنا، ملامح موسومة بالمعاناة والفقر، ملامح قد تكون لجيراننا أو عائلاتنا، تصريحاتهم تنسجم مع مدى البؤس والجهل الذي تعرفه ضواحي وقرى المغرب، هذه الوجوه بقدر ما هي بسيطة ومألوفة إلا أنها تنطق بحقيقة خطيرة: أن الإرهابين أبناء مجتمعنا ولم يُبعثوا من منطقة أخرى، الإرهاب يمشي بيننا، يقيم عاداتنا، ويتحدث لغتنا، تتمشى بيننا مئات القنابل الموقوتة، فكيف استطاع الإرهاب أن يلبس ثوب مجتمعنا.
في 16 مايو 2003 فجر 12 شابا أجسادهم في عدة أماكن راقية بمدينة الدار البيضاء ما أدى لمقتل 33 شخصا، شباب كان قاسمهم المشترك انتمائهم للحي الصفيحي سيدي مومن وفتوة سنهم، التفجيرات التي لم تدم سوى 5 دقائق كانت كافية لصدم دولة كانت ولوقت طويل بعيدة عن يد الإرهاب. بعد التفجيرات حمل المخرج المغربي نبيل عيوش كاميرته لإنجاز وثائقي مع عائلات الضحايا، غير أنه أدرك أن للحدث جانب أخر خفي وعميق.. جانب الإرهابين. لقد استغرق عيوش سنوات عديدة ليدرك أن للحادثة ضحايا من الجانبين، فالإرهابيون الشباب والذين لم يتجاوز عمرهم العشرين سنة قد تعرضوا لغسيل الدماغ وثم استغلال فقرهم وجهلهم لخلق قنابل من أجسادهم باسم الدين، لقد صرح عيوش أنه حاول في فيلمه التركيز على مصدر العنف لأن العنف لا يأتي من لا شيء.
وجد نبيل عيوش ضالته في رواية نجوم سيدي مومن للروائي المغربي ماحي بنبين والتي تحكي عن التربة والعوالم الخفية التي انتجت هجوما إرهابيا أسقط مفهوم الاستثناء المغربي، فاشترى حقوقها ليحولها لفيلم يحمل عنوان "خيل الله"، ينقل الفيلم بسلاسة مسار أربعة شبان من الفقر إلى التشدد والارتماء في أحضان الجهاد والوعد بجنة بكبسة زر. اعتمد نبيل عيوش في إخراجه للفيلم على تقسيم الفيلم لثلاثة أجزاء: الجزء الأول يقرب فيه المشاهد من الواقع المر الذي ترعرع فيه الشبان من فقر ورذيلة وتهميش، وفي الجزء الثاني ينقل المخرج حياة الإسلامين المتشددين محاولا إيصال فكرته بأن التطرف يأتي من نرجسية المتشدد والذي يعتقد بها أنه كفيل على الأمة، أما الجزء الثالث فهو الشروع في ارتكاب الفعل الإرهابي وما يصاحبه من طقوس. هكذا نجح عيوش في رصد تقدم السلفية الجهادية واقتياتها على البؤس والفقر والجهل لإنتاج قطيع من المنتحرين باسم الدين، لم يبرر عيوش في فيلمه الفعل الإرهابي ولم يبحث عن تعاطف مع الإرهابين إنما قرب المشاهد من الفهم الجيد للتربة التي ينبث فيها الفكر العنيف الناقم.
في سنة 2010 صدرت رواية نجوم سيدي مومن للروائي المغربي ماحي بنبين، وكانت محاولة منه لفهم سيكولوجيا الإرهابي عبر تعرية الظروف التي نشأ فيها هؤلاء الشباب، لقد أعطى ماحي بنبين للإرهابين القلم ليتحدثوا ويعبروا عن نفسهم ، يعيش بطل روايته ياشين في حي هو في الأصل مكب نفايات داخل كوخ يتكون من غرفة ضيقة، رغم البؤس يخطف ياشين رفقة أصدقائه لحظات فرح عابرة في فريقهم لكرة القدم المسمى نجوم سيدي مومن، غير أن القدر أدار وجهه منذ فترة طويلة تاركا سيدي مومن أمام الموت فقط، فالناس يأتون ويذهبون ويعيشون دون أن يحدث أي تغيير في مسار بؤسهم، وكما يقول ياشين: "جعلناه -الموت- ملكنا وكان ضيفا علينا يستريح في بيتنا، لقد كان الموت حليفنا يخدمنا ونحن نخدمه".
رسم لنا ماحي حي سيدي مومن بكل تعقيداته ورصد سلوكيات سكانه وجعلنا نكتشف البؤس والفقر والجهل والتطرف وغياب الدولة بطريقة دفعتنا كقراء لانتظار النتيجة الحتمية، وفي اللحظة التي نرى ياشين يموت يشعر هو من جانبه أن لحياته أخيرا معنى بعيد عن الفقر والبؤس، ويقول: "نحن فتحنا قلوبنا لله وقد ملأنا هو بروحه. هذه نهاية الشقاء والبلطجة، نهاية حياة الكلاب التي نعيشها".
يرى يورغن هابرماس أن انتشار الأديان قبل الحداثة كان يتوافق مع الأفق المعرفية للمجتمعات التي تظهر وبسبب انعدام التواصل كأنها عوالم كونية تمتلك الحقيقة، لكن مع ظهور الحداثة كان لزاما على الأديان التخلي على الإلزامية الكونية من أجل التعددية في عالم متعدد الأديان، هذا التخلي خلق لدى المتدين جرحا نرجسيا بعد اكتشافه مدى سذاجة فكرة الدفاع عن احتكار المعتقد الشخصي للحقيقة وأدرك المؤمن أن عليه التخلي عن العنف وهذا ما جعل من التسامح الديني شيئا ممكنا لأول مرة.
لكن الإرهابي يرى الحداثة تهديدا صريحا لدينه وليس فرصة لتطويره ويرى في العولمة اقتلاعا عنيفا له من الحياة التقليدية ولذلك كان رد فعله الدفاعي قويا وعنيفا. يرى هابرماس أن عدم التسامح الديني المجسد في الأصولية هو ظاهرة حديثة وليست رجوعا للدين الأصيل، فإذا كانت الحداثة طريقة في التفكير أكثر من كونها مضمونا فكريا، فالأصولية ليس لها علاقة بالدين بل بطريقة التفكير التي تشكلت عبر ردود فعل عنيفة ضد طريقة فهم الحداثة للدين، إنها استجابة عنيفة اتجاه الحداثة وخوف من الاقتلاع العنيف لطرق الحياة التقليدية.
تتعدد القراءات والحلول المقترحة للقضاء على الإرهاب، غير أنها تبقى محتشمة وغير ناجعة لعدة أسباب أهمها تلك القدسية المحيطة بكل ما هو ديني |
يقول محمد علي المحمود في كتابه السلفية والتنوير: لو سألت أو تسائلت: ما هي السمة الأبرز التي تشكل هوية المتشدد، لكان الجواب الأقرب إلى أذهان جميع العارفين بها وكل المتماسين معها إيجابا أو سلبا: هي كراهية الآخرين، كل الآخرين، كراهية كل آخر من حيث هو آخر مختلف، بنسبة تطرد مع درجة الاختلاف، لتكون الكراهية هنا هي جوهر الرؤية، والغرض المباشر للسلوك، لأن الوصول إلى مستوى التمثل الأكمل للكراهية يعني في تصور السلفية، الوصول إلى كمال الإيمان.
تتعدد القراءات والحلول المقترحة للقضاء على الإرهاب، غير أنها تبقى محتشمة وغير ناجعة لعدة أسباب أهمها تلك القدسية المحيطة بكل ما هو ديني وتكفير كل من يحاول إيجاد مكمن الخطأ في القراءات الخاطئة للنصوص الدينية. ويرى الناشط الحقوقي والمعتقل السلفي السابق عبد الوهاب رفيقي أن الحل هو تجفيف منابع الفكر الإرهابي: فحين تدافع عن المنظومة التراثية بكل ما فيها من خير وشر، وترفض أي نقد لها أو مراجعة، فأنت تطبع مع الإرهاب، لأن ذلك المجرم يعود لتلك المنظومة فيجد فيها أن نساء الكفار حلال، وأن دم الكافر حلال، وأن سبي نساء الكفار قربة وعبادة وجهاد، وأن اليهود والمسيحيين هم المغضوب عليهم والضالون، وأن الولاء والبراء عقيدة لا يصح دين المسلم إلا بها.. فكيف تلومه بعد ذلك على اتباع منظومة تنافح عنها؟
إن لم نقم بعملية تجفيف لمنابع كل هذا الفكر، والتأسيس لقيم المواطنة والتربية عليها، بعيدا عن كل الإيديولوجيات الدينية التي أنتجت كل هذا الخراب، فستظل أرواحنا في خطر، وستبقى حياتنا تحت رحمة مجرم يريد أن يتخذ من أمننا وحياتنا طريقا له نحو مضاجعة ثنتين وسبعين من الحور العين.