شعار قسم مدونات

من يقتل المسيحيين في مصر؟

من يقتل المسيحيين فى مصر؟

شهد عام 2018 عدة اعتداءات على المسيحيين في مصر، كان آخرها واقعة مقتل مواطن مسيحي ونجله برصاص شرطي حارس كنيسة نهضة القيامة بالمنيا في الثاني عشر من ديسمبر 2018. وتثير تلك الوقائع الجدل حول ملفات الفتنة الطائفية واضطهاد المسيحيين في مصر، كما تطرح سؤالا مؤداه من يقتل المسيحيين في مصر؟ فلم يشهد المجتمع المصري طوال تاريخه منذ الفتح العربي الإسلامي استقطابا حادا بين المسلمين والمسيحيين، وأحداث عنف وقتل على الهوية الدينية كما شهد منذ بداية حكم العسكر في عام 1952.

 

فتاريخ المصريين حافل بصور ومواقف من التعايش السلمي، والاندماج المجتمعي، والتسامح بين عنصري الشعب مسلمين ومسيحيين في ظل تشاركهم مكونات الهوية الوطنية من وحدة الأرض والتاريخ واللغة والثقافة وغيرها، فضلا عن المساواة في حقوق وواجبات المواطنة والنضال المشترك في مواجهة أعباء الحياة وتحدياتها.

فقبل عام 1952 وعلى المستوى الرسمي، تمتع المسيحيون – كمواطنين بغض النظر عن هويتهم الدينية- بالمساواة التامة مع المسلمين في الحقوق والواجبات، والحصول على وظائف ومناصب قيادية في الجيش والقضاء، والترشح لانتخابات مجلس الشورى، وكذلك الحصول على رتب البكوية والباشوية. كما تولى مسيحيين إثنين منصب رئاسة الوزراء هما بطرس باشا غالي (1908-1910)، ويوسف وهبة باشا (1919-1920). وعلى المستوى الجماهيري فإن ثورة 1919 قد جسدت وحدة وتماسك وقوة النسيج الوطني بين المسيحيين والمسلمين ونضالهم المشترك من أجل التحرر من الاستعمار البريطاني، وعلو الهوية الوطنية للمصريين وتجاوز الاختلافات الدينية بينهم، ورفع المصريون خلالها شعار "يحيا الهلال مع الصليب".

لكي يرسخ فزاعة الخوف لدى المسيحيين تقاعس النظام عن حمايتهم في حالات النزاع والخلاف الفردية تارة، وقام بتدبير المكائد ضدهم لضمان إحكام سيطرته وتبرير سياساته القمعية تارة أخرى

إلا أن هذا الاندماج أصبح على المحك مع بداية حكم العسكر عام 1952، والذي سعى للتفرقة بين أبناء الشعب الواحد، والتعامل مع المسيحيين ليس كمواطنين كاملي المواطنة، بل بوصفهم أقلية يجب استقطابها، وكجماعة دينية تتم مخاطبتها والاستجابة لمطالبها من خلال البابا فقط. وبذلك تم تدشين سياسة استقطاب المسيحيين وما تبعها من استغلال لتلك الطائفية لتحقيق مآربه وضمان استقرار الحكم له. فعمد نظام العسكر إلى الاتفاق مع رأس الكنيسة القبطية الأرثوذكسية على ضمان النظام أمن المسيحيين ومكانة البابا كممثل وحيد لهم، وذلك في مقابل تأييد الكنيسة والشعب المسيحي لنظام الحكم. كما روج النظام والكنيسة معا لمقولة أنه من دون حماية نظام حكم العسكر، سيصبح المسيحيون تحت نظام حكم إسلامي مُعادٍ لهم. وبذلك نال النظام دعما كبيرا من الكنيسة.

ورغم ذلك الاتفاق الضمني بين نظام حكم العسكر ورأس الكنيسة، إلا أن المواطنين المسيحيين – والمسلمين كذلك – لم يسلموا من غدر ذلك النظام الذي طالما ارتكب الجرائم بحقهم كلما دعته الحاجة لذلك، وسواء تم ذلك بشكل مباشر من جانب النظام أو بواسطة أذنابه وبلطجيته ممن يستخدمهم لإثارة المشكلات وإشعال الفتن. وظلت ورقة الفتنة الطائفية من مبررات النظام لقمع مواطنيه. وكما اتهم البابا شنودة الثالث الرئيس السادات بما أسماه (أسلمة زاحفة) للدولة عقب قيام السادات بالإفراج عن قيادات وأعضاء الجماعات الإسلامية الذين سجنهم نظام جمال عبد الناصر والسماح لهم بالعمل السياسي، وكما رد السادات باتهام البابا بكونه ذو نزعة انفصالية، وكما حرص مبارك على إخافة المسيحيين من حكم إسلامي إن هو أطيح به، قام نظام حكم العسكر ببث إشاعات حول أخونة الدولة في عهد الرئيس محمد مرسى ونشر فزاعة الإسلام السياسي وحرية المسيحيين في ظله.

 

ولكي يرسخ فزاعة الخوف لدى المسيحيين تقاعس النظام عن حمايتهم في حالات النزاع والخلاف الفردية تارة، وقام بتدبير المكائد ضدهم لضمان إحكام سيطرته وتبرير سياساته القمعية تارة أخرى، وبقتلهم مباشرة تارة ثالثة في تنفيذ لسياسة القمع باستخدام القوة الغاشمة التي انتهجها نظام حكم العسكر ضد المواطنين عموما، لا سيما منذ الانقلاب العسكري عام 2013. بيد أن ذلك الاتفاق الطائفي الفوقي بين نظام حكم العسكر والكنيسة يسقط كلما أتيحت الفرصة للجماهير للتعبير عن هويتها الوطنية وضميرها الجمعي بعيدا عن سيطرة الكنيسة والنظام. فكما كانت ثورة 1919 بشعارها (يحيا الهلال مع الصليب) تجسيدا للوحدة الوطنية بين المصريين مسلمين ومسيحيين، شهدت ثورة يناير 2011 مشاهد كثيرة تعكس الوحدة الوطنية بعيدا عن المصالح السياسية لجماعات الضغط الديني وللكنيسة.

 

ومن أمثلة ذلك ما حدث في 11 مارس 2011 أو ما سمى ب (جمعة الوحدة الوطنية) التي تظاهر فيها الآلاف من المصريين منديين بما وصفوه بمحاولات إحداث فتنة طائفية بين الثوار، ومرددين هتافات (قول لبولس قول لبلال.. أصل الثورة صليب وهلال) و(مسلم ومسيحي إيد واحدة)، وإقامة صلاة الجمعة أمام كنيسة السيدة العذراء مريم بمنطقة إمبابة في 3 أبريل 2011 وسط حماية المسيحيين. وبالمثل إقامة قداس مسيحي بميدان التحرير في 6 ابريل 2011 مع حماية أطواق بشرية من المسلمين الذين رددوا مع اخوانهم المسيحيين كلمة (آمين). وأثناء اعتصام ماسبيرو الذي نظمه المسيحيون في الرابع من أكتوبر 2011، توقف المسيحيون عن الهتاف احتراما لشعائر صلاة الجمعة وشكلوا سلسلة بشرية لحماية المصلين المسلمين. فضلا عن اعتياد قيام شباب مسيحيين بتوزيع وجبات إفطار رمضانية مجانية على إخوانهم من المسلمين، وإقامة موائد إفطار بالكنائس.

المؤسّسات المصرية السلطوية هي التي جعلت الأقباط هدفاً للصراع الاجتماعي، وأن الاختلافات المذهبية ليست المصدر الأساسي للتوتّر
المؤسّسات المصرية السلطوية هي التي جعلت الأقباط هدفاً للصراع الاجتماعي، وأن الاختلافات المذهبية ليست المصدر الأساسي للتوتّر
 

خلاصة القول أن من أطلق إشاعات أسلمة الدولة ونزعات المسيحيين الانفصالية، هو من دبر وضخم أحداث الفتنة الطائفية المفتعلة في مناطق الخانكة 1972، والزاوية الحمراء 1981، والكشح 1998 و1999. وأن من قتل من ثوار يناير 2011 مينا ناجى، وفؤاد سليمان أسعد، وأبانوب عوض الله نعيم، هو نفسه من قتل زملاءهم سالى زهران ومصطفى أبو زيد ومحمد عماد حسين. وأن من قتل مينا إبراهيم دانيال، وأيمن نصيف وهبه، ومايكل مسعد جرجس في أحداث ماسبيرو 2011، هو ذاته من قتل أسماء البلتاجى، وحبيبة أحمد عبد العزيز وغيرهما في رابعة العدوية 2013.

 

وأن من اعتدى على كنائس القديسين وإمبابة 2011، والكنيسة المرقسية بالعباسية، والكاتدرائية المرقسية بالإسكندرية 2017، وعلى زوار دير الأنبا صموئيل بالمنيا عامي 2017 و2018، هو من اعتدى على مساجد رابعة العدوية والفتح بالقاهرة والقائد إبراهيم بالإسكندرية 2013. وأن من عذب حتى الموت ماهر جرجس توفيق بقسم شرطة بنى سويف 2018، ومجدى مكين بقسم شرطة الأميرية بالقاهرة 2016، هو من قتل خالد سعيد بالإسكندرية 2010، وطلعت شبيب الرشيدى بالأقصر، وعمرو سعيد أبوشنب بقسم شرطة شبين القناطر، والمحامي كريم حمدي في قسم شرطة المطرية 2015، وأحمد السيد الشهير بـ (زلطة) حدائق القبة 2018، وإسلام صلاح الدين عطيتو بالقاهرة 2016، ومحمد عبد الحكيم، الشهير بـ”عفرتو” بالمقطم 2018. وفى الثاني عشر من ديسمبر2018 لقى المواطن المسيحي عماد كمال صادق ونجله ديفيد مصرعهما برصاص رجل شرطة حارس كنيسة نهضة القيامة بالمنيا.

ولعل من دلائل عدم وجود فتنة طائفية حقيقة في مصر شهادة الأنبا هيدرا – أسقف أسوان في 12 أكتوبر 2011 عن عدم تعرض المسلمين للمسيحيين خلال أحداث قرية الماريناب بمركز ادفو، وكذلك شهادة الأنبا بنيامين – أسقف المنوفية عن أحداث عنف عام 2013، فضلا عما أكده (جايسون براونلي) في دراسته عن (العنف ضد الأقباط والمرحلة الانتقالية في مصر) والتي نشرها مركز كارنيجى الأمريكى لأبحاث السلام في نوفمبر 2013، والتى أكد من خلال نتائجها أن المؤسّسات المصرية السلطوية هي التي جعلت الأقباط هدفاً للصراع الاجتماعي، وأن الاختلافات المذهبية ليست المصدر الأساسي للتوتّر.