يبدو أن الإنسان كائن ممزوج بالغريزة إلى درجة تحتاج منه الكثير من التعقل، لكي يستطيع مجاراة ما تفرضه الحياة، ولكي يستطيع التعالي عن جانبه الحيواني، ويبقى هذا الأمر صعبا للغاية في حالات معينة. ذلك أنه من المعروف أن الانسان ينهار بسهولة أمام غريزته إلا في الحالات التي يمنعه مانع قوي من ذلك، لأن الجزء المتعلق بالغريزة يحتوي على نصيب كبير من اللذة التي يبحث عنها الإنسان، ولهذا السبب يحاول أن يلبي نداء الغريزة حسب ما تمنحه الظروف، كما لا يتوانى عن التحرر من كل ما يقيده من أجل هذه الغريزة، وهنا يجد نفسه عالقا بين لذة لا يستطيع ردها، وبين قيود لا يستطيع الخلاص منها، ولا يستطيع اتباعها، بل إنه يتملص منها في مقابل البحث عن اللذة، ولعل هذه الأخيرة هي مبعث الحياة بالنسبة للإنسان.
لعل الفرق شاسع بين ما هو متاح في الدنيا، وبين ما يتمناه المؤمنون بالأديان، هذا الفرق يحاول المؤمن أن يجمعه ويوفق بين المتاح والمرغوب والمتمنيات، فتراه يحاول جاهدا أن يقوم بتدينه كما يناسب مزاجه، وما يشعره بأنه قريب من غفران ربه، وفي هذا الصدد كتب علي الوردي يقول: "إن الدين لا يردع الإنسان عن عمل يشتهي أن يقوم به إلا بمقدار ضئيل، فالإنسان يفسر تعاليم الدين، ويتأوّلها حسب ما تشتهي نفسه". كما نجد أيضا أن الإنسان لا ينسى نصيبه من الدنيا، إذ لا يتردد في ممارسة الملذات بقدر ما أتيحت له، ولا يرفضها إلا لسبب قوي، لأن ما تفرضه الغريزة البشرية يظل قويا بالمقارنة مع الابتعاد عنه، وهكذا يجد المؤمن نفسه بين المطرقة والسندان، فهو متبوع بدينه الذي يمنعه من ممارسة غرائزه، ورغم ذلك يمارسها بكل مما أوتي من رغبة، ولا يكترث لدينه إلا بعد أن يأخذ نصيبه من اللذة، وهكذا فالغريزة تلعب دورا بارزا في تحديد المسار الذي نسير فيه.
يجد المؤمن نفسه بين رغبات تجبره على الخوض فيها، وبين إطار ديني يمنعه منها، كما يعده بالعقاب في حال قيامه بها، لكنه لا يكترث لهذا العقاب، بقدر ما يعطي أهمية للذة التي تعشش فيه |
لا ينتظر المؤمن حتى يحصل على ما وعدته الأديان في الأخرة، لأنها لا تعده إلا بما هو متوفر له في الدنيا، وحتى تقوي وعدها، فإنها تقوم بمنعها عليه في الدنيا، وتدفعه لقمع رغباته، حتى يتسنى له ان يأمل في الحصول عليها لاحقا، ورغم كل ذلك، لا يتوانى في الاستجابة لنداء الغريزة عندما يجد إليها سبيلا، ذلك أن الممنوع مرغوب، وبهذا القدر صار المرغوب متاحا، فلم يعد هم المؤمن منصبا إن كان هذا المرغوب ممنوعا، فهو يأتيه لأنه يجد فيه لذة تنسيه وعيد الأخرة، لكنه بعد أن يستفيق من لذته، يصيبه تأنيب الضمير الذي أودعته الأديان في قلبه، فيضطر معه إلى طلب الغفران، علّ ذلك يزيل عنه بعض الذنوب التي يستشعرها من خلال استجابته لنداء الغريزة.
في الحياة يجد المرء نفسه تائها بين عديد الملذات المتاحة له، فيحاول أن يأخذ أكبر نصيب منها، لأن هذه الملذات تنطوي على ما يبحث عليه الانسان، فبقدر ما يهرب من الألم، يبحث على نحو واسع من اللذة، ولهذا لا يتوانى عن تلبية لذاته عندما تسمح له الظروف بذلك، وعندما تتوفر لديه الشروط لذلك، فهو ليس ملاكا -كما يقال- لكي يتردد في قضاء غريزته، بل إنه لا ينتظر حتى تتاح له، ذلك أنه يبحث عليها بكل ما ملك من رغبة، فهو يسعى لتحقيق ما أوجدته الطبيعة فيه، ولا يرفض ذلك إلا عندما تمنعه الظروف من ذلك أو تجبره على الامتناع عنه، أما غير ذلك لا يشغله، فحتى تأطيره بدين معين لا يمنعه من عصيان وصايا دينه عندما يتعلق الأمر باللذة، وقد يمنعه القانون الوضعي من ذلك أكثر مما يمنعه قانونه الإلهي، ولذلك لا يكترث كثيرا لقانونه الإلهي إلا عندما يرغب في التكفير عن ذنوبه، ومن أجل ذلك يحاول أن يمارس الغفران، معتقدا بذلك أنه كفّر عن عصيانه.
هكذا يجد المؤمن نفسه بين رغبات تجبره على الخوض فيها، وبين إطار ديني يمنعه منها، كما يعده بالعقاب في حال قيامه بها، لكنه لا يكترث لهذا العقاب، بقدر ما يعطي أهمية للذة التي تعشش فيه، ومن هنا يجد صعوبة بالغة في التوفيق بين الأمرين، وقد يستطيع التوفيق إذا قمع رغباته على قدر واسع، وهنا سيلغي جانبا مهما من حياته، وهو الجانب الذي يمكن أن يؤثر سلبا على صحته النفسية ولو بعد حين، لكن التشديد في الأمر والابتعاد التام عن اللذة في انتظار لذة الآخرة، قد يكون من ناحية ما ابتعاد عن الحياة، لأن الأساس في الحياة هو اللذة، لكن لا يجب أن تحكمنا اللذة على نحو واسع حتى نصير مثل الحيوان، فالأهم من كل ذلك هو لا إفراط ولا تفريط، لكن الأجمل أن يستخدم المرء عقله في ممارسة لذاته، وذلك حتى لا ينجر أمام عذوبتها ليسقط في عذاباتها بعد ذلك، واستخدام العقل يجب أن يشمل الدين أيضا، حتى لا يصير المرء متشددا في اعتقاده إلى درجة يرفض معها الحياة أملا في حياة أخرى يمكن أن تعوضه عن تلك اللذات التي قمعها هنا.