شعار قسم مدونات

ما الفرق بين العشق الإنساني والعشق الرباني؟

blogs عبادة

يستعصي على المرء أن يحس ببعض المشاعر ويتعرف عليها، سواء كانت حسنة أو سيئة، كالحب والكره، والإيثار والأنانية.. في غياب وجود أشخاص آخرين تربطه بهم علاقة تولد مشاعر في النفس، لذلك نكون مدينين لغيرنا في اكتشافنا لها في أنفسنا وبالتالي معرفتنا بخصائصها وعلاماتها. إن عامل الممارسة والاحتكاك بالآخرين يولد تجربة شخصية توضح معالم هذه الأحاسيس، ليبدو كل واحد منها متميزا عن الآخر، فلولا إذن هذا الغير لبقيت غامضة ومعتمة عن وعينا مدى الحياة.

إن كان الأمر كذلك فيما يتعلق بعلاقة الإنسان بالإنسان من حيث رابط المشاعر، فما علاقة الإنسان بالمقدس أو الله؟ في ميدان فلسفة الدين يتم الحديث عما يسمى "بالتجربة الدينية" وهي تلك العلاقة المباشرة التي تربط الإنسان بالذات الإلهية، أو هو نوع من الظهور الإلهي في تجلياته أمام الذات الإنسانية. يُعّرف الفيلسوف الألماني "شلايرماخ" التجربة الدينية، بالتجربة الشعورية التي تربط العبد بمصدر قوة مطلقة هو الله، وهي ذاتُ طبيعة حدسية تتجاوز كل تحديد عقلي ومفهومي. ووصفها عبد الجبار الرفاعي: "بمواجهة الله وإدراك حضوره، والمثول في حضرته، وتحسس هذا الحضور وتذوقه روحيا".

 

وباختصار شديد، يمكن القول هي تجربة الشخص المؤمن بوجود الله وهو مُتجل أمامه. إن من أهم مميزات هذا الشعور الحسي المرتبط بالتجربة الدينية هو ما عبّر عنه الرفاعي بإرواء الظمأ الانطولوجي وذلك بمنح الوقود الذي نفتقده في حياتنا ليشبع حاجتنا في معرفة معنى الحياة، وكشف سرّها، وتعزيز قدرتنا بالمستوى الذي يجعلنا قادرين على التغلب على مشكلة الوجود البشري في هذا العالم، وإخراجها من حالة القلق إلى السكينة، ومن اللامعنى إلى المعنى.

من خلال ما سبق يتبين أن هنالك نوعين من الشعور، الأول يربط الإنسان بالإنسان والثاني الإنسان بالله، ممّا يدفعنا إلى طرح مجموعة من الأسئلة تتعلق بطبيعة العلاقة بينهما، أهناك تشابه أم اختلاف؟ هل هي علاقة استمرارية أم قطيعة؟ أهي علاقة تكامل أم إقصاء؟

التجربة الدينية العرفانية العميقة عند ابن عربي أهّلته ليقترب من الذات الإلهية وكأنها متجلية أمامه كما يراها ويشاهدها، إن لم نقل اتصل بها روحيا كما يؤمن بذلك جماعة المتصوفين

ولأن المشاعر كثيرة ومتعددة كان لزاما أن نختار واحدا منها لنعقد عليها مقارنتنا، لذلك اخترنا شعور "المحبة" لأسباب منها متعلقة بما هو سلوكي نظرا لما يترتب عنه من ممارسات، ثانيا، لإمكانية تفسيره بيُسر لارتباطه بسبب معلوم بالضرورة خلافا لبعض المشاعر الغامضة الأسباب، كالخوف مثلا من لا شيء، ثالثا، لتأثيره السلبي على مدارك العقل ،كل هذا بالإضافة إلى عجّ المراجع التي تناولت هذه الظاهرة في شتى ميادين المعرفة فلسفيا ونفسيا ودينيا…، من جهتنا سنلتزم بتناول هذه الظاهرة من داخل التراث الفلسفي الاسلامي، معتمدين على كتاب "طوق الحمامة" لابن حزم الاندلسي القرطبي الظاهري للاقتراب من معاني العشق الآدمي أي محبة الانسان للطرف الثاني وذكر علاماته.

 

أما بالنسبة للعشق الرباني، فسنبحث في تحديداته وأعراضه عند شيخ المتصوفة محي الدين بن العربي من خلال كتابه "الحبّ والمحبة الالهية". لنحاول بعد ذلك أن نخلص الى ما يمكن أن نخلص إليه من نتائج؛ لن نتوقف عند تعريف كل منهما لمسألة المحبة نظرا للاستغراق النظري والمفاهيمي الذي لا يعنينا، بقدر ما يعنينا تلك العلامات الحسية الناتجة عن هذا الشعور.

يرى ابن حزم أن من علامات العشق الآدمي أن تجد المحب يستدعي سماع اسم من يحب ويستلذ الكلام في أخباره، فلو أمكن ألا يكون حديث في مكان يكون فيه إلا ذكر من يحبه لما تعداه. وكذلك يقول ابن عربي فيمن يحب ربه فهو يستريح إلى كلام محبوبه وذكره بتلاوة كلام الله، فلا يؤثرون شيئا على تلاوته لأنهم ينوبون فيه عنه، فكأنه المتكلم.

يقول ابن حزم فيمن يحب الطرف الثاني، أنه من عجيب ما يقع في الحب طاعة المحب لمحبوبه، وصرفه طباعه قسرا إلى طباع من يحب وربما يكون المرء شرس الخلق، صعب الشكيمة.. فما هو أن يتنسم نسيم الحب ويعوم في بحره تعود الشراسة لينا والصعوبة سهلة والحمية استسلاما. وكذلك يرى ابن عربي أن المحب الرباني يعانق طاعة محبوبه الله ويجانب مخالفته لأن المحب عبد والعبد من وقف عند أوامر سيده، وتجنب مخالفة أوامره ونواهيه، فلا يراه حيث نهاه ولا يفقده حيث أمره.

يرى ابن حزم أن من وقع في الحب، من عجيب طاعة المحب سهرُ الليالي الكثيرة ولقيان الجهد الجاهد وتقطعِ القلب بضروب الوجد، كذلك المحب الرباني يقول فيه ابن عربي أن محبوبه الذي هو الله لا تأخذه سنة ولا نوم لكي يحفظ العالم، لذلك يكون محبه العبد جليس محبوبه ويعتبر النوم عليه حرام.

يرى ابن حزم أن المحب يعتذر عن كل ذنب ويقر بجرمه ولو كان بريئا، فلا ينفك من توجه الذنوب نحوه وإيقاع العتاب عليه والسخط وهو نقي الجلد لا ذنب له، كذلك المحب لله عند ابن عربي يستقل الكثير من نفسه في حق ربه ويستكثر القليل من حبيبه، وكونه محبا يرى في نفسه من الانكسار والذلة والدهشة والحيرة التي هي أثر الحب في المحبين. نفس التشابه سنراه عند عرضنا لبقية العلامات المتولدة عن هذا الشعور عند كليهما، من قبيل الحيرة والحنين والشوق والبكاء والصبر.

من خلال هذه المقارنة بين شعوري المحبة الذي نحمله بدواخلنا تجاه المعشوق من البشر كما يقدمه لنا ابن حزم، وتجاه الذات الإلهية كما عبّر عنه ابن العربي يمكن ملاحظة ذلك التشابه العميق من خلال ما يظهر من علامات، طبعا نتحدث عن التشابه وليس التطابق، ذلك أن مقام الألوهية يختلف تماما عن مقام العبودية.

إِن كان الاتصال الأول بين النفوس البشرية ترتبت عنه علامات لها ما يُبررها لكون المحبوب موجود أمامنا ماديا نراه ونعيش معه، فكيف بالذي لا نراه ولا نلمسه؟ يمكن القول إن التجربة الدينية العرفانية العميقة عند ابن عربي أهّلته ليقترب من الذات الإلهية وكأنها متجلية أمامه كما يراها ويشاهدها، إن لم نقل اتصل بها روحيا كما يؤمن بذلك جماعة المتصوفين.

عملية الانتقال من محبة الإنسان للإنسان إلى محبته لله تكون سلسة ومرنة وسليمة العواقب للذين لم ينجحوا في الوصول إلى محبوبهم إما لسبب استحالته أو لوجود مانع من الموانع
عملية الانتقال من محبة الإنسان للإنسان إلى محبته لله تكون سلسة ومرنة وسليمة العواقب للذين لم ينجحوا في الوصول إلى محبوبهم إما لسبب استحالته أو لوجود مانع من الموانع
 

نظريا يمكن القول أن من حسنات هذه المقارنة كثيرة بعد تأملنا لأبعادها، فالشعور بالمحبة الالهية ليس من باب المستحيلات مادام المرء قد عايش نفس الشعور وأحسّ به وتعرّف عليه من خلال علاقته بمحبوبه من بني جنسه، فليس شعورا غريبا أو جديدا على النفس، بل فقط يحتاج إلى نوع من الإسقاط الخاص.

كما أن عملية الانتقال من محبة الإنسان للإنسان إلى محبته لله تكون سلسة ومرنة وسليمة العواقب للذين لم ينجحوا في الوصول إلى محبوبهم إما لسبب استحالته أو لوجود مانع من الموانع، فهذا الانتقال هو خير ملجأ درءا لكل العواقب الوخيمة التي قد تعصف بالشخص وتدمر كيانه عندما يكون عشقه مستحيل التحقق؛ ولنا في قصة الأصمعي خير دليل مع الشاب الذي تعذر عليه الوصول إلى معشوقه حتى وصل به الولع إلى الجنون فنصحه الأصمعي بأن ينتحر، وكذلك فعل! أو كما تحكي قصة جنون "خوانا" ملكة قشتالة بسبب وفاة زوجها فيليب الوسيم لحبها الشديد له.

أضيف هنا أيضا مسألة تتعلق بوصول المرء إلى تمام الوعي بإمكانية تحقق العشق الالهي، سيطرح سؤال الكيفية لنيلها وهي في الغالب تجربة ذاتية لا تقبل نقلا ممن خاضها إلى الغير إذا استثنينا ملاحقة بعض المشاعر الشخصية التي ذاقها في قصة عشق ما بنوع من التأقلم. وتبقى مسألة أخيرة تتعلق بجمع العشقين معا مرة واحدة بنفس القوة والتي نعتقد أنها مستحيلة التحقق، إذ غالبا ما يتقوى شعور ما على غيره، وكل ما تقوى شعور ما خفت الآخر. كانت هذه أهم الخلاصات التي وصلنا إليها في تأملنا النظري عند مقارنتنا لنوعين من المحبة، البشرية والإلهية، وفي كل الأحوال على المرء أن يعترف بدَينه لمحبوبه الذي عرّفه بهذا الشعور في انتظار ربط علاقة محبة خالصة بمن يستحق كل التفاني ولن يكون سوى الله تعالى.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان