شعار قسم مدونات

أغنياء وفقراء.. هل حالتنا الاقتصادية تتحكم في ارتباطنا بالدين؟

blogs فقر

أعجبني كلام زوجة الأديب البريطاني "كازو إيشيكورو" عندما قالت له: "لا تهتم بالتعاليق التي تمدحك بل بتلك التي تنتقدك، وكانت هي من تقرأ له في بعض الأحيان تلك التعاليق بصوت عال، حتى يدرك أخطاءه، ولا يغتر بنفسه، سيتسأل البعض ما دخل هذا الكلام بالموضوع، فبينما كنت أراجع بعض التعاليق على التدوينة السابقة: "لماذا الفقراء يعبدون الله اضطرارا والأغنياء اختيارا؟" تبين أنه كان هناك غموض في المقال، مما اضطرني إلى كتابة هذه التدوينة كجزء ثاني لتلك، لكن قبل أن نجيب عن هذا السؤال: "لماذا الفقراء يعبدون الله اضطرارا والأغنياء اختيارا" سنجيب على سؤالين متعلقين بالموضوع وهما: هل نعبد الله اضطرارا أم اختيارا؟ ومن الذي جعل الفقراء يعبدونه اضطرارا والأغنياء اختيارا؟ 

الموضوع ليس متعلق بجميع الناس سواء الفقراء أو الأغنياء، ولكن الغالبية منهم على هذا المنوال، وكما أنه هناك طوائف كثيرة فأنا سأتحدث عن قسمين مما عايشتهم، فقضية هل نعبد الله اضرارا أو اختيارا؛ قد انقسم الناس في ذلك على قسمين؛ فذهبت السلفية على أنه يجب أن نعبد الله اضطرارا، وذلك يتجلى في أننا علينا أن نعبده خوفا وطمعا، بينما ذهبت الصوفية إلى أنه يجب أن نعبده اختيارا، ويكمن ذلك في أنه علينا عبادته محبة فيه ليس خوفا من ناره أو طمعا في جنته، لكن القسمين أضلوا الطريق، بحيث ذهب طائف إلى أقصى اليمين والأخرى إلى أقصى الشمال، بل إن الله يجب أن يعبد حبا فيه وخوفا وطمعا، وإذا جمع الإنسان بين هذين الأمرين سيكون قد بلغ المطلوب، وإذا كان الله يعبد هكذا سنكون نعبده اختيارا لأننا أردنا ذلك محبة فيه، وكذلك اضطرارا لأننا خائفون من عذابه وطمعا في جنته، ولا مزية لأمر على الآخر، ولو انتفى أمر من هذين ستنتفي العبادة من أساسها.

 

الذي جعل الفقير يعبد الله اضطرارا والغني اختيارا؛ هم دعاة الضلال الذين ضلوا وأضلوا من حيث لا يدرون، سواء كانت دعواتهم تلك من خلال محاضراتهم أو عبر الفضائيات التي أغلبها تكون تابعة لأصحاب الولاء، والانتماء، والتحزب

لكن لا فرق في ذلك بين الغني والفقير كل سواسية، لأن لا أفضلية فيما لا يد للإنسان فيه من غنى وفقر، بل الأفضلية تكمن في العمل الصالح؛ الذي يكسبه الإنسان من مجهوده وتحصيله، سواء كان غنيا أو فقيرا، ومن يستقرئ النصوص الدينية على بصيرة، ويتتبع حياة النبي والصحابة سيدرك ذلك، لكن مع مرور الزمان بدأ فهم الناس للدين يضعف، وبدأت تظهر هناك فرق وطوائف، كل يدعوا الى مذهبه وحزبه مستعمل في ذلك الدين كتجارة، فتولد لدينا شيوخ دين، شيوخ سياسة، شيوخ كلام، شيوخ طرق، شيوخ زوايا…

كل واحد منهم يدعوا إلى مصلحته وحزبه ومذهبه، مستعملا في ذلك الدين كوسيلة، ولقد قال أبو حامد الغزالي في هذا الصدد:" لم أجد من علماء عصري الذين علمتهم المساجد والمدارس، إلا طلاب دنيا يشترون متعها بالدين.." لذلك دعا رحمه الله إلى إحياء علوم الدين في النفوس، إذا كان ذلك حاصل في عصره، فما بالك بعصرنا الذي كثر فيه الدجالون والمفترئون، الذين جعلوا من الدين تجارة، يبيعون ويشترون ويتناكحون ويتناسلون باسم الدين، حتى وأن كان معظم زبائنهم من أضعاف العقول والدين، وما حديث الراقي المغربي عنا ببعيد.

فمشكلتنا اليوم تتجلى في تحديث العقول كي نفهم بها الدين ونستنبط منه ما يواكب عصرنا وليس العكس، وسبب جمود عقول الناس هو أن بعض المؤسسات والمذاهب اختزلت الدين في الأحكام من حلال وحرام فقط ونشفته من معانيه الروحية، بحيث أنها تشبثت بالمظاهر الخارجية فقط؛ من تقصير الثياب وإسدال اللحا، وتغليف النساء… وأما القسم الثاني فاشتغل بالجانب الروحي فقط، فكثر لديهم أذكار مخصوصة وطرق يعبدون بها الله من شطحات ورهبانية، وانتهت الى ضروب من الانتحار الروحي. وبما أن الأمر إذا فات عن حده انقلب الى ضده، تولد عند الطائفتين معا غلو كبير في الدين، فأساءوا للدين من حيث لا يدرون، فتشكلت لذا طائفة من الناس صورة سوداء عن الدين، حتى أضحى بعضهم يطالبون بتجديده، وأنه لا يواكب العصر و و و و..

فالدين من حيث هو دين ومن حيث نصوصه الثابتة لا تتجدد ولا تتغير؛ لأنه يواكب ويناسب جميع العصور، بل الذي عليه أن يتجدد هو عقول الناس التي نهكتها الخرافات، وكذلك بعض أفكار المتزمتين، فأصبحت هذه العقول متحكمة إلى أقوال الناس الذين استنبطوا أحكاما كانت تناسب عصرهم، وإذا لم تناسب عصرنا علينا أن نستنبط أحكام أخرى تناسب عصرنا لا أن نضل مكتوف الأيدي، متحكمين إلى ما استنبطه الناس الذين يصيبون ويخطئون. فالذي جعل الفقير يعبد الله اضطرارا والغني اختيارا؛ هم دعاة الضلال الذين ضلوا وأضلوا من حيث لا يدرون، سواء كانت دعواتهم تلك من خلال محاضراتهم مع الناس أو عبر الفضائيات التي أغلبها تكون تابعة لأصحاب الولاء، والانتماء، والتحزب، وفي أحسن الأحوال أهل الحماس، ويفتقد فيها أهل الاختصاص والأهلية.. يكثر فيها الخطباء، ويغيب عنها الفقهاء، فالإعلام دوره هو ايصال المعلومة، وعملية التوصيل تحتاج إلى أمور تنبني عليها: 

الأمر الأول: يتعلق بالمعلومة نفسها من حيث صحتها، ووثاقيتها، وصوابها.
الأمر الثاني: يتعلق بالناقل، المعلم؛ خصائصه، وصفاته، وقدرته على الإبانة، واستشعاره المسؤولية تجاه ذلك.

الأمر الثالث: يتعلق بالآليات المستخدمة في إيصال المعلومة المكتوبة، والمسموعة، والمرئية.
الأمر الرابع: يتعلق بالمتلقي: تاريخه، وثقافته، وواقعه، وعمره الثقافي، ومدى ملائمة المعلومة لعمر المتلقي، فإذا كانت هذه الأمور ضروري في من يريد أن يوصل المعلومة، فلا تغني في ذلك الحماسة، ولا سماكة الحناجر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.