شعار قسم مدونات

يا بنات.. اتركوا العنان لأرواحكم وتحسّسوا فضاءات الله!

blogs طبيبة

كنتُ وحدي في الغرفة الخاصة بتخييط الجروح في قسم طوارئ المشفى أخيّط جرح طفل صغير في الوقت الذي افتقدتُ فيه هاتفي ولم أجده، فأصبحتُ محصورة ما بين جرح طفل مفتوح وبين هاتفي المفقود والذي كان على الطاولة قبل قليل، أنهيت تخييط جرح الطفل بتقنية تجميلية رائقة كما طلبت الأم، كتبتُ له الأدوية والوصايا اللازمة وهممتُ بالذهاب، وقبل أن أذهب عرضت الأم عليّ مساعدتها بأن تتصل على هاتفي في محاولة الوصول إليه، امتننتُ لهذا اللطف ولم أشأ أن أردّها فارغة اليدين، فاتصلَت على هاتفي، لأجده بعد قليل مع أحد أفراد طاقم التمريض.

 

مساءً، يتصل نفس الرقم، أمّ الطفل، "لعلّ طارئًا قد حدث" قلتُ وأنا أحاول أن أواسي نفسي عن حجم الورطة التي تورطتها أن رقمي أصبح مع مرافقة أكتشف أنها ملحّة الآن، لكنها لم تكن كذلك، اتصلت لتشكرني بالنيابة عنها وعن جدة الطفل "ما هذا اللطف"، وأن تغدقني بالدعوات، ثم لتسألني عن مكان عيادتي الخاصة لتتابع معي! "بس أنا لسا ما تخرّجت، وما إلي عيادة"، أغدقتني مرة أخرى بالدعوات وبالأمنيات، امتنّت لي، ولهاتفي الذي ضاع فعقد نقطة اتصال بيني وبينها، فشكرتها وامتننت للطفها مرة أخرى.

نسيتُ أن أخبرها أنني في السنة الأخيرة، وأنّي طوال الست سنوات أناطح مجتمعًا يحب العلم ويخشاه! كم مرّة سمعنا مصطلح "علّقي شهادتك في المطبخ".. حسنًا.. شُكرًا.. سأعلّقها في أجلّ محفلٍ رأته عينك.. أعلّقها؟ لا لن أفعل، سأجعلها تنطق بصوتٍ يضجّ في آذان كلّ أولئك الذين قالوها فيصمّوا عن الحديث، وسأناظرهم يومها بوهج النور الذي سيسطع ذات حدث.

هذه الكينونة الصغيرة التي حلمتُ أن أكونها يوم كنت في الصف الرابع ورسمتُ نفسي كطبيبة على ورقة رقيقة مهترئة تحتفظ لي بها خالتي في درجها حتى اليوم، هذه الكينونة كلفتني الكثير

هذه الشهادة التي افترضت لها المطبخ ستنطق في غرف كثيرة تشبه غرفة التغريز تلك التي كانت وجهًا مصغرًا عنها، ستنطق بالدعوات، على لسان الأمهات والجدات والأطفال الذين سيكبروا ويتذكروا وجهي ذات يوم حين حدثتهم أن الطبيب ليس وحشًا، وأن الألم الذي يحسونه وقت تخييط الجرح هو قرصة نحلةٍ صغيرة سنضربها ونطردها معًا بعد أن تأتي وتضع العسل على الجرح ليلتئم، فيصدّقوا ويمتنعوا عن الصراخ ويتحمّلوا وخز الإبرة من أجل هذا العسل، كم من طفل تلفّت تحت يدي يسألني "وين النحلة" فأضحك ويضحك معي الأهل، ويتحوّل جوّ الغرفة الكئيب الممتلئ بإبر خياطة الجروح والمعقّمات إلى لطفٍ أدفأ.. كم أمتنّ لشهادتي حينها، كم يحملني هذا الشعور إلى مناطق سماوية عُليا فيأتي على بالي أن أبكي من الفرح!

هذه الكينونة الصغيرة التي حلمتُ أن أكونها يوم كنت في الصف الرابع ورسمتُ نفسي كطبيبة على ورقة رقيقة مهترئة تحتفظ لي بها خالتي في درجها حتى اليوم، هذه الكينونة كلفتني الكثير، وإني لم أكن أعلمُ ذلك، وإني في كلّ مرة أبذل فيها جهدًا كثمنٍ مدفوع كنت أقول: لعلّها المرة الأخيرة.. ويبدو أنني سأعيش عمري بطوله وأنا أناطح على أنها المرة الأخيرة!

ويبدو أيضًا أن دعوة الصباح قد تبدّلت من "اللهمَّ أعنا على تحمّل الثقل"، إلى "اللهمَّ أعنّا على تحمّل الأذى"، في وقتٍ صار فيه الثقل متعتنا، والأذى عثرة روتينة. وإن هذا الذي سيأكلُ حبّ التين بعد عمر مفاخرًا بعسله، سينسى تمامًا أنه كانَ يقطع براعمه الصغيرة قبل عهدٍ بحجة أنها فسيلة غير مجدية وأنها إهدار للوقت والجهد " وكله عالفاضي".. يومها سيأكل.. سندعه يأكل، وسيعتلينا نوع من السلام الداخلي أنّ أيدنا العليا خير وأطهر من أيديهم التي طالتنا بالأذى.

هذا الذي سيخبركنّ بأنها غير مجدية، أخبرنَهُ عن الدفء في دعوة عجوزٍ مُقعَدة، وعن لمعة عين موجوعٍ تخفّف من ألمِه، وعن طفلةٍ تتنحى بإحداكنَّ على جنب تهمسُ لها أنها قدوتها وأنها ستصبح طبيبة مثلها تمامًا
هذا الذي سيخبركنّ بأنها غير مجدية، أخبرنَهُ عن الدفء في دعوة عجوزٍ مُقعَدة، وعن لمعة عين موجوعٍ تخفّف من ألمِه، وعن طفلةٍ تتنحى بإحداكنَّ على جنب تهمسُ لها أنها قدوتها وأنها ستصبح طبيبة مثلها تمامًا
 

يا بنات! أنتنّ مخلوقاتٌ لتحلمن، وتصلن، وتعِشن، وتُحَقّقْن، وتتحقّقن، وتتعرفن على وجوه الحياة بأنواعها وأشكالها الملوّنة، أن تمارسن الحياة بتمام مراحلها، فلا تلفظْن أكسجين رئاتكن، ولا تطفئن وجوه النور، ولا تقفن، ولا تنتظرن، ولتضعنَ خططكن وتمضنَّ عليها بيقين، خططكن وأحلامكن وكينونتكن ليست خيارات على مقاعد الاحتياطّ! .. إنكنّ الأفراد الرئيسية وما عدا ذلك كماليات مقدّرة في لوحٍ محفوظ، فتمسّكن بأنفسكنّ وسطَ العباب.. حَلّقن ولا تعطّلنَ أجنحتكنّ وتحرمنها لذة مداعبة الفضاءات والقمم ومنصّات التكريم والمجد، والاسم الذي يدوي.. أنتنّ تستحقُنّ ذلك!

هذا الذي سيخبركنّ بأنها غير مجدية، أخبرنَهُ عن الدفء في دعوة عجوزٍ مُقعَدة، وعن لمعة عين موجوعٍ تخفّف من ألمِه، وعن طفلةٍ تتنحى بإحداكنَّ على جنب تهمسُ لها أنها قدوتها وأنها ستصبح طبيبة مثلها تمامًا.. ليست الطبيبات فحسب، والمهندسات والمعلّمات والصيدلانيات والممرضات والحالمات والطامحات والصاعدات وكلُّ أنثى تشقُّ طريقَها بخطى واثقة وواعدة يقطر منها النور والجمالِ، وتكسرُ تيارات الريحِ لتبلغ متعة الحياة الكامنة في (التكوين، والتكوّن)، في (المجد ومطبات دروب المجد)، وفي (وجوه القمة وسلالمها المكسورة المتعثرة)، في الفضاء والجمال والسعي والتعلّم والعمل والإشراق والهطولِ والإزهار، يا بنات؛ أنتنَّ لسن رهناء للمطابخ، أنتنَّ للحياة.

وهذه المقاعد التي افترضت لكُنَّ مسبقًا بتفكيرٍ دون، هي ممرُّ أيّ أنثى لأي كائن كان حيوانًا أو طيرًا حتى! وإنه وإنْ بلغتْهُ هذه المخلوقات الدنيا؛ فأَصيبي قلبكِ باليقين أنه سيبلغكِ في وقتهِ، فدعكِ من ضجيجِ الناس، ودعكِ من مقاعدِ الانتظار، وانطلقي إلى فضاءات الله، وتمتَّعي بهذا الجمال المتناثرِ.. واتركي عنان روحكِ لتبلغ بكِ ما لم تبلغه خطى أي أنثى من قبلكِ ولا حتى من بعدك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.