ما الذي دفع البوعزيزي لإضرام النار في جسده؟ بعد أن أكلت الحرقة قلبه من الداخل بسبب التضيق عليه في رزقه، وغلق الدولة باب التوظيف أمامه تماما كما أغلقت على نفسها الاجتهاد في إيجاد بدائل له وللملايين أمثاله وفتحت بدلا من ذلك باب التهاون في التعامل مع ملف التوظيف والتشغيل وتعامت عن انتشار مبدأ المحسوبية والمحاباة والمجاملة في التوظيف. بعد سبع سنوات من رحيله، هل يحس أحدنا أن الدولة استوعبت ما حدث؟.. هل تعلم الدولة أن البوعزيزي لم يضرم النار في نفسه لخلاف بينه وبين الشرطة حول المساواة في الميراث؟ بل كان احتجاجا وإشارة بأن السيل بلغ الزبى في ملف البطالة، والحيف الاجتماعي والفساد السياسي. إذًا ما الذي جعل الرئيس الحالي ومن قبله لا يقفون عند أسباب ورسائل ما حدث في تلك الأيام من سنة 2010 و2011 ولا تراهم يتسابقون إلى البحث عن حلول بنيوية شاملة للبطالة ولاستعادة ثقة المواطن بالدولة، بل يجعلون الأمر قضية انتخابية تارة وللاتجار بالمعاناة وللمزايدات السياسية فترات أخرى.
تغزو تونس منظمات وجمعيات حقوقية من كل الأصناف والدول.. جميعها منبهر بما حصل، ممتنا للفرصة التي أتته للعمل في بلد عربي حول قضايا وتراث وعقائد وتفاصيل كثيرة.. والدولة نفسها فرحة بتهليل وشكر المنظمات لها وتتفاخر برحابة صدرها وكيف أنها تسمح للجميع بالتعبير ولا تتدخل في عملهم أو تراقبهم أو تدقق في تمويلاتهم أو خلفياتهم.. بل أصبحت تسابقهم في دعواتهم حتى أن بعض الجمعيات لولا الحياء والخوف من تصادمهم مع عقيدة مجتمعاتهم لعادت تدعو إلى المساواة في الميراث في الدول الأوروبية. نعم حصل هذا في بلد يطالب بالمساواة في الفرص والتوظيف والعدالة الاقتصادية وانتخب الرئيس بوعود لحل وفك شفرة هذا الملف فتركه جانبا وبدأ يبارز العالم بملفات لم يثرها المسلمون ولا علماء الإسلام منذ عصر الرسالة إلى اليوم.. ترك لافتات الذين استشهدوا بعد البوعزيزي طلبا للقمة العيش وبدأ ينبش في اللاشيء.
ماذا يصنع الشاب العاطل بنفسه وهو ينتظركم سنوات ثم تخرجون عليه وأنتم تنثرون رائحة الفوضى وتبشرون بسنوات عجاف |
تصوروا لو أن رئيسنا قدم للتونسيين في ذكرى الثورة تقرير بشرى بالحاج حميدة الخاص بمبدأ المساواة وتكافؤ الفرص في العمل بين المواطنين دون إقصاء أو تهميش أو محسوبية أو محاباة أو مجاملة، كانت ستكون فرحة تدخل كل بيت، أعتقد أن لا أحد سيحتج ضد التقرير ولن ينقسم التونسيون بين معارض ومؤيد وبين من ينتقد بشرى أو يتهمها أو من يناصرها ويدعمها بل سيكون الجميع سعداء وممتنين لها وللرئيس.. سيقول بعضكم ولماذا بشرى فهي غير مختصة.. نقول إنه لا يهم الاختصاص فقد كلفت بملف الإرث وهي غير عالمة ولا مختصة.. وتشغيل الشباب قد يسهل عليها عملها لاحقا في ملف المساواة في الإرث لأن الوظائف تخلق الثروة التي يتم تقاسمها لاحقا وفق قانون بشرى، أما من دون وظيفة فما الذي سنتقاسمه؟
لا أحد يعلم فعلا كيف تحول ذلك المرشح للرئاسة الذي بكى خلال حملته الانتخابية في أحد الأسواق وهو يستمع لمسنة تروي له حالتها وكيف تتدبر قوت يومها، تحول إلى رئيس يتعقد أن الشعب بورجوازي وأنه إن مات دون أن يحدد لنا في قانون مقدار الميراث فسنتقاتل بعده.. كيف انتهى به الحال إلى الحديث طويلا ودائما عن الخصومات والمعارك السياسية والحروب الحقوقية المزيفة فيما شرائح العاطلين عن العمل المطالبين بالتوظيف تأكلها كراسي المقاهي تنتظر تشكيل لجان تشبه لجنة بشرى سريعة ومقبولة وحداثية وخلاقة ومبتكرة تنهي معاناتهم وتمنع بعضهم من سلك الطرق غير المشروعة وتحفظ لهم كرامتهم وتغير حياتهم إلى الأفضل هم وأهلهم والوطن.
غير أن خبراء الإنكار والهروب إلى الأمام.. ينكرون على العاطلين حقهم في العمل، حقهم على الدولة في بدء التقشف بنفسها وببروتوكولاتها وببدلات وبوزرائها وسياراتهم وسيارات مستشاريهم.. بل حقهم في استثنائهم من الحقن وإبر التنويم والاصطفاف السياسي، حتى لا تجد مواطن جائعا وعاطلا وفوق ذلك محبط ويائس من وضع البلاد العام.. ماذا فعل المواطن البسيط حتى يستخدم كعصى للمناكفة السياسية؟.. وباسمه تتم تغذية الصراع وترسيخ مبدأ التقسيم والتفرقة وإيهامه بأن الحلول ستأتي بعد تصفية هذا الطرف أو التخلص منه.. فالعاطل وهو يتابع أولويات رأس السلطة كل يوم يستخلص ببساطة أن الأمر سيطول وأن الأبواب جميعها مغلقة وأن خيارات التطرف أو الهجرة أسهل وأهون الحلول وأن تحقيق الخلافة وإن بدا مستحيلا فهو يبدو أقرب من تحقيق النخب التونسية لوعودها.. أم ماذا يحسب الرئيس والوزراء أن التحاق التونسي بتنظيم الدولة أو الهجرة ترفا؟
هل يحتاج الأمر إعلامكم بأنه اليأس وقلة الحيلة من بين الأسباب؟.. ماذا يصنع الشاب العاطل بنفسه وهو ينتظركم سنوات ثم تخرجون عليه وأنتم تنثرون رائحة الفوضى وتبشرون بسنوات عجاف.. ينتظرك في خطاب الحلول فتأتونه بتقرير لتقاسم الإرث.. هذا ببساطة يفقده الأمل ويقضي على جميع أحلامه بأنه لن يساعد أحدا من أسرته وسيتابع طويلا الحسرة في عيون أمه والمحيطين به.. سيبقى ذليلا لفترة أكبر فالدولة في واد آخر غير الذي يقاتل فيه هو للحصول على سيجارة قبل الخبز.
أسر بالملايين تستثمر في أبنائها وتقترض وتكابد الأمرين وتئن تحت وطأة القروض ليتعلم الأبناء والبنات لمساعدتهم لاحقا عند الكبر، يأتي المنتخب وفي عنقه آلاف الوعود بتحسين الوضع ليقرر أول ما يقرر إرسال الأبناء مجددا إلى أسرهم ليتقاسموا معهم منازلهم المؤجرة وليرثوا الديون والشعور بالظلم والقهر، هذا بعد أن يموت الآباء حسرة عليهم وعلى الدولة التي تتصرف في بروتكولها وتعتمد نظام البدلات و… والسيارات وتنفق على المؤتمرات والضيافات مثلها مثل دولة متقدمة ولكنها تعامل مواطنيها كفئة من البدون.
دولة تنشئ وزارات كاملة للتشغيل ولكن بدل جعلها بداية توظيف العاطلين يتم استغلالها لنقل موظفين من عدة وزارات ممن لا يحتاجونهم ولا هم لديهم رغبة في العمل فيلتحقون بالعمل يبعثرون الميزانيات في زراعة ونقل جينيات البيروقراطية والفساد بالتساوي بين الوزارات.. لا يهم الحلول المهم تكريس المساواة وإن في الفشل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.