شعار قسم مدونات

"نظريّة الألعاب".. كيف لك أن تمشي ملكا؟!

blogs شطرنج

يتلفت رجل من نافذةِ مرْكبتهِ باحثا عن مخرج مختصر يتجاوز به الازدحامات المرورية الخانقة، ورجليْنِ هناك في المقهى المحاذي لطريقه يلعبون الورقْ -أو الكوتشينة- في تلك الأثناء، على شاشة تلفاز المقهى، تُعرض نشرةُ الأخبارِ الّتي تتحدّث عن حملات سياسية بين الجمهوريين والديموقراطيين، ومالك المقهى يعقد اجتماعا طارئا مع نائبه لوضع خطط يردّون بها على تحدّيات المقهى المنافس الذي لا زال يخفّض الأسعار في السوق يوما بعد يوم.

 

السّائقُ، الرجلان، المالك وطرفا الحملات السياسية، يربطهم ببعضهم البعض في هذه الحالات سلوكيّات متشابهة، إذ يُمثّل كلٌّ منهم لاعبا في حالته، فالأول يضع استراتيجياتٍ لينظر في فكرة اجتياز الازدحام، يضع بالحسبان أن اللاعبين الآخرين في الطريق -أي السائقين- قد يتخذوا أيضا قرارا بالتجاوز، ينظر في الربح والخسارة في الوقت والوقود، ويحاول تقدير مآلات الامور كأن يزدحم الطريق المختصر أيضا، وأصحاب الكوتشينة كل منهما ينتظر حركة الآخر ليبني حركته التالية بحسبها، الديموقراطيون ينتظرون تطوّر الحملة السياسية من طرف الجمهوريين ليبنو استراتيجية الرد حسب أفعال الطرف الآخر وأقوالهم، أما مالك المقهى، فيلاعب منافسه بلعبة وضع السعر الأنسب والأخير الذي يكسب صاحبه جزءا كبيرا من السوق من غير خسارة. بكلمات أخرى، هؤلاء كلهم تجمعهم نظريّة علميّةٌ اجتماعيّة، هؤلاء الذين يعيشون كلٌّ في عالمه ومعضلته قد اجتمعوا معا في عالم "نظريّة الألعاب".

 

لم يبتعد الفقه الاسلامي عن تلك الاستراتيجية عند إصدار فتاوى معيّنة بعد تطبيق ما يُسمّى "النظر في مآلات الأمور" و "فقه الموازنات" أي النظر في كل فعل أو قول، إلى أي حدٍّ قد يصل، النظر في النتائج المحتملة

نظريّةُ الألعاب، هي ببساطة وسيلة لتحليل تضارب المصالح رياضيا للوصول إلى أفضل قرار يحقق أقصى قدرٍ من رغباتنا، مع الأخذ بالحسبان للظروف المحيطة وحركة اللاعب المنافس. هذه النظريّة أيها السادة ليست مجرّد استراتيجيّات لتحريك قطع الشطرنج والدامكا كما يُفهم من ظاهرها، بل إنها نظريّة اقتصاديّة تغزو الأسواق، ونظريّة عسكريّة بامتياز، ونظريّة سياسية بلا شك، ولعلم النفس فيها نصيب، وإنّي لأراها ترتقي في كثير من فلسفتها وتفاصيلها لتكون اسلوب حياة.

 

فحياتُنا بشكل عام هي سلسلة من الحالات والمسائل الشبيهة بالألعاب، تفاصيل حياتنا -وإن كانت لا تنطبق بالضرورة على تلك النظرية- إلا أنها تشبه مجموعة من مباريات ومنافسات، وعلى أقل تقدير فإن اتخاذ القرارات فيها شبيه إلى حد كبير لطريقة اتخاذ القرارات في تلك النظريّة، هذا في شتى المجالات كالعمل وطلب العلم، في اجتماعياتنا وصحتنا، وحتّى بشكلٍ من الأشكال فالفقه والدين، الإنسان بشكل عام، ذو تفكير استراتيجيّ واقتصاديّ بالفطرة، يفكّر دائما في الحصول على أقصى فوائد ممكنة في اتخاذ قراراته، فكلّما وسّع الإنسان نطاق تفكيره الاستراتيجي، ووظّف كل معلوماته في كل مسألة وإن كانت بسيطة، ثمّ درس أكبر كمّ من الاحتمالات الواردة وحاول أن يحاكي حدوثها في عقله، تُصبح جلّ خطواته رابحةً، أو سيستطيع تحويل الخسارة إلى ربح في كثير من الحالات وبأسوء الحالات سيتفادى التعثر بالخسارة.

 

في مثال جميل بسيط، على الفرق بين أن نتخذ قرارات بحسب الفائدة الكبرى وبين أن نتخذ قرارات بحسب الظروف والاحتمالات وتصرفات الآخرين، ظهرت مُعضلة السجينين، في سجنٍ مُفترض، ثمّة سجينان كل منهما في زنزانة، عُرِض على كل واحد منهما خياريْن، إمّا أن يشي بالاخر فيُطلق سراحه في حين يُسجن ذاك عشرة أعوام، وإمّا أن يلتزم الصمت فيُسجن هو عاما، وإذا وشى كلاهما سيسجن كل واحد منهما خمسة أعوام. المعضلة هنا هي أنّ اتخاذ القرار بحسب الفائدة الكبرى قد يكون خطرا، فلا بدّ لكل سجين أن يضع احتمالات صمت الآخر من كلامه نصب عينيه، ثم ينظر في نتائج الخيارات المتاحة ليتخذ القرار المناسب، الحل هو أن يبدأ كل سجين بأخف الأضرار، وهي أن يصمت منتظرا لرد فعل السجين الآخر، إذا صمت سُجِنَ كل منهما عاما، وهي نقطة التوازن الأمثل في هذه الحالة، بعد ذلك إن تكلم أحدهما تكلم الآخر.

 

وفي حديث للنبيّ صلى الله عليه وسلّم، جعل التفكير الاستراتيجي وترك العشوائية في القرارات من صفات المؤمن، حين قال "لا يُلدغ المؤمن من جحر مرّتين" تعالوا بنا لنفكفك الحالة التي تكلّم عنها بنموذجها البسيط. في المرّة الأولى، تحصّلنا على معلومات مهمّة، في الجحر أفعى لدّاغة، ومن عاداتها أن تلدغ من اقترب من جحرها، مما يجعلنا نضع بالحسبان في المرّة الثانية التي سنضطرّ فيها إلى الاقتراب من ذاك الجحر، لا ينبغي ان نُلدغ مرة أخرى، علينا أن ننظر في الاحتمالات، في الظروف، وفي عادات المنافس، ثمّ نتخذ قرارنا بحيث لا نُلدغ مرة أخرى، عملية تفكير استراتيجيّ بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

 

ولم يبتعد الفقه الإسلامي عن تلك الاستراتيجية عند إصدار فتاوى معيّنة بعد تطبيق ما يُسمّى "النظر في مآلات الأمور" و"فقه الموازنات" أي النظر في كل فعل أو قول، إلى أي حدٍّ قد يصل، النظر في النتائج المحتملة، حتى أنّ ثمّة مصالح تُمنع بسبب أن ما ينتج عنها بعد ذلك مفاسد أكبر، ومفاسد قد تُقبل لأنّها تمنع مفاسد أكبر وما إلى ذلك، وهو باب واسع لسنا بصدد التطرق إلى تفاصيله هنا.

 

لحياة مليئة بالمباغتة، ويد الأقدار قد تقلب الطاولة في أي وقت، إلا أننا مع ذلك قد نستطيع تقليل الأضرار، في أن نتعامل مع كل مسألة برويّة وذكاء، وفي أن نكون شجعانا في تقبل الاحتمالات السلبية

رسالتي هي أننا ينبغي قبل أن تخذ قراراتنا المصيرية وغير المصيرية في هذه الحياة، علينا أن نمر بسلسلة خوارزميّة من الأسئلة والاستعلامات، بدايةً علينا أن نعي تماما نقاط ضعفنا ونقاط قوتنا، ونحاول دائما تعزيز نقاط القوة وتقوية نقاط الضعف. بل ونحاول إضافة نقاط قوة جديدة. ثمّ نجمع كمّا هائلا من الاحتمالات في كل خطوة نخطوها، كي نستطيع تخفيف الاضرار بقدر المستطاع، ولكي نستطيع الاستمرار في التقدم المدروس بغض النظر عن النتائج، لأنّ الحياة قصيرة لا تتسع لتجمّد الانسان عند الصدمات!

 

فمثلا عندما نتقدم لامتحان مصيري، ثمة فرق بين أن نتوقف على احتمالية النجاح والفشل ونترك الباقي للمستقبل، وبين أن نضع خطة بديلة للاستمرا في حياتنا بعد الفشل -لا قدّر الله لكم- حتى في علاقاتنا الاجتماعية، غض الطرف عن الفراق المحتم إما لخلاف وإما لموت خوفا من ألم الفراق ليس حلا، بل لا بد دائما أن نحاول محاكاة هذه الامور القاسية، حتى نتجنب تبعات الصدمات ولو بشكل بسيط -عافنا الله واياكم- لذلك يقولون أنّ المخطط العسكريّ المحنّك هو من يضع خطط الانسحاب قبل خطة الاقتحام.

 

علينا أن نكون قادرين على تقدير مآلات الأمور، في كل خطوة كلمة أو صمتٍ وسكون، ثمّ نختار خطواتنا بدقة، تماما كأنّنا في لعبة شطرنج كبيرة، علينا أن نفكفك كل شيئ من حولنا، وأن نصغّر مساحة العشوائية في حياتنا قدر المستطاع، أن نفرق بين الخير والشر، وخير الخيرين وشر الشرين، ألا نقدم على أمر إلا ونحن واثقين اننا لا نريد الخروج منه، أو أن نضع دائما خطة للخروج مما لم نستطع توقع مآلاته ونتائجه بشكل كبير. باختصار، أن نحاول أن نكون الملوك في حياتنا الشبيهة برقعة الشطرنج الكبيرة، ألّا نتحرّك حركة إلّا ونحن واثقين من قدراتنا على التقدم والعودة إن لزم الأمر، ألا نتحرك بغير تخطيط وتحليل، وأن نحرك نقاط قوتنا بحسب ما عندنا وعند الطرف الاخر من قدرات، تماما كما نختار الخطوة الامثل بين تحريك جندي أو حصان أو قلعة بحسب القدرة والحاجة ورد فعل المنافس على رقعة الشطرنج.

 

وبالختام، لست أدّعي أننا نستطيع تحويل الحياة إلى معادلات واحتمالات دقيقة، فالحياة مليئة بالمباغتة، ويد الأقدار قد تقلب الطاولة في أي وقت، إلا أننا مع ذلك قد نستطيع تقليل الأضرار، في أن نتعامل مع كل مسألة برويّة وذكاء، وفي أن نكون شجعانا في تقبل الاحتمالات السلبية، ثمّ الّا نقف يوما من الايام مكتوفي الأيدي، فإذا حدث ما ليس بالحسبان، نبدأ فورا بوضع الخطة البديلة. لا تدع شيئا يفوتك، فكّر، حلّل، تأمّل، ثق بخطوتك ثمّ تقدّم، لتمشي -كما قيل- ملكا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.