الواقع أنني أحاول في هذه المحاضرات، أن أتحدث عن المثقف أو المفكر باعتباره شخصية يصعب التكهن بما سوف يقوم به في الحياة العامة، ويستحيل تلخيصها في شعار محدد، أو في اتجاه حزبي معتمد أو مذهب فكري جامد تابت.
هكذا وجهة نظر إدوارد سعيد، لا يمكن بأي حال من الأحوال الاتفاق على علاقة ثابتة ومستقرة بين المثقف والسلطة، وذلك يعود الى طبيعة الدور الذي يؤذيه المثقف في الاشتباك اليومي بالواقع المعيشي، والأهمية الكبيرة التي تقع على عاتقه وتمثلها الأفكار والمؤهلات التي اكتسبها خلال ممارساته الوظيفية الحيوية في الوجود الاجتماعي والفضاء السياسي.
أطروحة إدوارد سعيد للمثقف والسلطة من النصوص النقدية الأدبية التي تحدد حدود العلاقة وتنفيها في آن واحد، ويبقى المثقف في أخير المطاف صاحب رسالة، ومبادئ، يحمل أفكارا لتغيير الواقع الاجتماعي والسياسي |
فما كان يقصده الفلسطيني إدوارد سعيد عن المثقف في الحياة العامة بعيدا عن التعريفات الكلاسيكية، هو نفسه ما ينطبق على جمال خاشقجي، إذا ما قلنا أن هذا الأخير استطاع أن ينسلخ بشكل ذاتي من قيود تحد من تفكيره، وهو ما أطلق عليه إدوارد سعيد في وصفه لدور المثقف واعتباره ذاك الهاوي أو اللامنتمي الذي يعكر صفو الحالة الراهنة، من خلال التمسك بقيم العدالة والاستقلالية التامة عن السلطة وتحمل مسؤوليته عند الشدائد والقيام بدوره الثوري في الثقافة التي يمثلها أو يصبوا إليها.
فأي صورة للمثقف عند إدوارد سعيد؟ كيف تتميز علاقته بالساسة والسياسة؟ هل اختلافه السياسي الثقافي يعرضه للتهميش والاغتراب والهجرة؟ لا ننفي الوضع الصعب الذي يحيط بالمثقف علاوة على أوضاع عمله المضطربة، لكنه لا يتبنى الفوضى أو يتصرف بعشوائية كنموذج للتواجد بهذا العالم، وإنما يبقى حاملا لرسالة أو مشروع مضاد للسائد يجعله يضع نصب عينيه تفكيك السلطة المستبدة كهدف أولي لا يعني له الانشقاق أو الولاء وإنما الإخلاص للمبادئ والتمسك بالمنهج والوفاء للحقيقة.
المطلع على مواقف وآراء جمال خاشقجي يدرك تماما، أنه لا يعارض النظام السياسي لبلاده بل كان مناصرا لكثير من القضايا والسياسات، ولكنه يختلف معهم بخصوص بعض الملفات التي تهم المنطقة العربية. يمدح وينقد، ويعترض ويوافق، ويؤيد بعض الإصلاحات، لم يكن راديكالياً ولا جذرياً، إنما مشهورا ومنفتحا ومعتدلا، حتى توجهه المذهبي غالبا يفرق بين دول "الربيع العربي" وبين السعودية، فدول الربيع عنده لا نهضة لها إلا بالديمقراطية، وأما السعودية فكان يرى أنه كما تمسّك الصينيون بالشيوعية وما كانت عائقةً سبيلَ تطورهم فإنّ السعودية قادرة كذلك على النهوض مع التمسك بالسلفية، وحين ابتدأت الأزمة الدبلوماسية مع قطر، غادر جمال السعودية وأقام في الولايات المتحدة واتخذها مَهجراً اختيارياً، فطريقة اغتياله تعكس جدلية استقرار، متلازمة المثقف والسلطة، التي هي موضوع المقالة.
المواقف الصورية أو الرمزية التي يقفها المثقف أو المفكر عادة لا تقوم على تدعيم الذات والاحتفاء بها ولا هي مقصود بها أساسا خدمة الأجهزة البيروقراطية طويلة الأمد، بل إن هذه المواقف تعبر عن ذاتها كنشاط مستقل. يعتقد إدوارد سعيد أن الثقافة والسياسة بالشكل العام هما نفس الشيء فقط يتبادلان المصالح، إذ يمكن النظر الى السياسة كثقافة والتعامل مع الثقافة كسياسة، وهو الأمر الذي يعيدنا إلي الصفر حيث كتب سعيد في مقدمة كتابه الثقافة والإمبريالية بأن الأفكار وحدها هي القادرة على مقاومة الامبريالية، والتصدي لأطماعها، وهذه العبارة تحيل إلى مسألة العلاقة بين الثقافة والسياسة، التي كانت من ضمن القضايا المحورية والأساسية في أعماله، هذه العلاقة الجدلية تبقى معقدة ومركبة في ظل صراع طرفي المعادلة، سلطة الفكر وسلطة السياسة.
أطروحة إدوارد سعيد للمثقف والسلطة من النصوص النقدية الأدبية التي تحدد حدود العلاقة وتنفيها في آن واحد، ويبقى المثقف في أخير المطاف صاحب رسالة، ومبادئ، يحمل أفكارا لتغيير الواقع الاجتماعي والسياسي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.