وسط هذه الفوضى السياسية والحديث عن أن حكومة عادل عبد المهدي هي حكومة الفرصة الأخيرة للنظام السياسي الحالي في العراق، والذي وضع أسسه الحاكم المدني لسلطة الاحتلال الأمريكي بول بريمر، وفي وقت يزدهر فيه مزاد بيع وشراء المناصب السيادية والحكومية وكل ما يخص السلطة والتشريع والقضاء، تحت سطوة وهيمنة شريعة الغاب وفوضى السلاح، ناهيك عن تلاعب الدول بدمى السلطة و"شقاواتها" تساءلت في نفسي: ماذا لو جاء حاكم مثل جحا "الافتراضية" وحكم العراق؟ ماذا سيفعل؟ وكيف سيتعامل مع مجمل الأحداث؟
عُرف عن جحا حسُّه الفكاهي بالتعامل مع الآخرين إضافة إلى ذكائه في التصرف، لكن هل سيقاوم جحا عمليات النصب والاحتيال التي تجريها الكتل السياسية على بعضها على الأقل في عملية تشكيل الحكومة؟ وكيف سيتصرف لو جلس على مقعد رئيس مجلس النواب؟ هل سيطغى حس الفكاهة على تصرفاته؟ تخيلوا معي أن محمد الحلبوسي رئيس البرلمان جاء إلى عمله وربط حماره بباب المجلس وهو يرتدي قبعة جحا وملابسه التقليدية الزاهية بالألوان خلال يوم جلسة استكمال التصويت على الكابينة الوزارية للحكومة الحالية، وأن جحا أي "رئيس البرلمان" اتفق قبيل انعقاد الجلسة مع كتل سياسية على تمرير وزاراتها ورفض الوزارات التي ترفض تلك الكتل تمريرها.
لنتخيل سوية قراءة أسماء المرشحين للوزارات وجحا يقرر أن يقرأ بنفسه الأصوات مكان رئيس الوزراء، ليتمكن من كسب الصفقة التي عقدها قبل دخوله قاعة الجلسة، جحا يقرأ اسم وزير التعليم العالي ويطالب النواب برفع أيديهم وقبل أن يتمكن الجميع من رفع أيديهم خلال مدة لا تتجاوز "٣ ثوان" يصيح جحا تمت الموافقة على المرشح وأصبح وزيرا! ثم يقرأ جحا اسم وزير التخطيط ويصيح "تمت الموافقة"! والنواب يتصايحون انتظر يا جحا ما زلنا لم نرفع أيدينا، ثم لماذا لم يحضر رئيس الوزراء كما نص الدستور في المادة ٧٦؟ فينادي جحا على اسم وزير الثقافة وبالكاد يرفع النواب أيديهم فيصيح جحا وهذا وزير ثالث وافقنا عليه!
ما يحدث في العراق على أرض الواقع في هذا الوقت هو أن رئيس الوزراء عادل عبد المهدي لم يأتِ بوزير واحد مستقل وجميع الوزراء رشحتهم الكتل السياسية |
فينادي جحا على المرشحة لوزارة التربية فيرفع بعض النواب أيديهم وآخرون يقولون لبعضهم بعضاً: سيمررها حتى وإن لم نرفع أيدينا يبدو أنه مستعجل للحاق بموعد ما، فبالكاد عاد صباحاً من السعودية والتقى ملكها ولابد أنه حصل على مكافأة مجزية بعد اللقاء، ثم يتفاجأ أعضاء المجلس أن جحا لم يوافق على توزير المرشحة، فينادي رئيس المجلس عدُّوا الأصوات بأيديكم لا بد من احتساب الأصوات، هكذا يلزمنا القانون فيبدأ الموظفون عد الأصوات بأيديهم والنواب المعارضون يتقافزون هنا وهناك والفوضى تثير غرابة كتلة الوزيرة حتى جاء الخبر إلى جحا أنها حصلت على ١٦٩ صوتاً هي وزيرة يا جحا.
فإذا بالرئيس يخلع قبعته المخروطية وينادي عليهم: هذه الأصوات ليست صحيحة، اتفقنا على غير ذلك، عدُّوها مرة أخرى، وبعد دقائق من الهرَج والمرج ينادي جحا عليهم الآن الأصوات صحيحة لدينا ١٠٥ أصوات! لا وزيرة للتربية اليوم، هل موقف جحا غريب برأيكم ولا يمكن حصوله؟ لكنه للأسف حصل في مجلس النواب العراقي، وما كان من نواب محافظة نينوى الذين تمثلهم مرشحة وزارة التربية إلا أن غادروا الجلسة وذهبوا صوب الدائرة الإعلامية ليعقدوا مؤتمرا صحفيا أعلنوا فيه رفضهم لما جرى، وأكدوا أن الجلسة فقدت شرعيتها، ومخرجاتها غير قانونية، وأن ما حصل اتفاق تجاري على حساب استحقاقهم ولصالح دول خارجية للحصول على مكاسب مالية.
وماذا لو كان جحا رئيساً للوزراء في العراق وطلب منه تقديم كابينته الوزارية للتصويت عليها في البرلمان؟ هل سيقوم جحا بالاتفاق سراً مع رؤساء الكتل السياسية على أن يقدموا الأسماء التي تدفع لهم أكثر مقابل أن يحصل هو على نصيبه صافياً من مبلغ شراء الوزارة؟ هل سيكون جحا فاسداً أم رئيس وزراء فعلي وعلى قدر المسؤولية؟ هل سيأتي جحا على حماره حاملاً أسماء المرشحين للتوزير في حكومته ويقول لمجلس النواب: هذه الأسماء أنا أتحمل مسؤولية نجاحها وإخفاقها صوّتوا عليها، وفِي حال لم أقدم ما مطلوب مني خلال مدة زمنية معينة صوّتوا على إقالتي؟
أم أن جحا سيكون ضعيفا مهزوزا يجرُّه حماره لأن يدخل البرلمان وهو خائفاً من عرض اسم لا تقبل عليه جهة سياسية أو متوجساً من أن يزعل جهة ويرضي أخرى، في وقت قال فيه إن حكومته ستكون حكومة تكنوقراط همُّها الوحيد إرضاء الشعب وتقديم الخدمات وتوفير الأمن؟ هل ستطول مدة تشكيل حكومة جحا ٧ أشهر ويفشل بإكمال التصويت عليها على الرغم من خضوعه لإرادات الكتل السياسية؟ ثم كيف سيكون شكل جحا؟ هل سيبقى على جلده وردائه وقبعته وألوانه الزاهية أم سيكون له شكل آخر بعد أن أصبح رئيساً للحكومة؟
هذا كله مجرد توقعات ويحتاج إلى مخيلة واسعة حول ما سيقوم بِه جحا لأجل شعبه وحكومته ولكن ما يحدث في العراق على أرض الواقع في هذا الوقت هو أن رئيس الوزراء عادل عبد المهدي لم يأتِ بوزير واحد مستقل وجميع الوزراء رشحتهم الكتل السياسية على الرغم من إعلانه فتح باب الترشيح الالكتروني أمام الشعب فإنه أخفق باختيار أي مواطن كُفء من العامة، وخضع لإرادات الأحزاب والكتل، وعلى الرغم من كل ذلك ها هو عاجز عن إكمال حكومته بعد ٧ أشهر من اختياره رئيسا لوزراء العراق.
لندع رئيس الجمهورية برهم صالح الذي لم يعمل شيئا حتى الآن سوى التنقل بين دول العالم واستقبال الوفود والزوار وبكل تأكيد لن يستطيع جحا التنقل بين الدول بهذه الشراهة ويزور دولتين أو ثلاثة في الأسبوع، لأن حماره سيتركه ويرحل أو يمرض على أقل تقدير، لكن لنتخيل معاً أن جحا رئيس لمجلس القضاء الأعلى وهو القاضي العام للعراق، فكيف سيتصرف مع وجود عشرات الآلاف من المعتقلين دون تهم واضحة، وكيف سيتصرف بفكاهة مع الفصائل المسلحة التي تحتجز آلاف المعتقلين أو كيف سيلزمها بالإفصاح عن مصير آلاف الأشخاص الذين اقتادتهم لجهات مجهولة؟ وكيف سيحاكم جحا المسؤولين الفاسدين لا سيما أن البلد منذ سنوات تخصص لها ميزانية تسمى بالانفجارية، لكن لا أثر لتلك الأموال على الأرض؟
هل سيكون جحا على سجيته ويمارس دوره الحقيقي بطريقة فكاهية؟ مثلا أن يقول لرئيس الوزراء السابق حيدر العبادي سمعتك تقول فور تسلمك للمنصب سنضرب الفاسدين بيد من حديد، كان عليك محاسبة الوزير الفاسد الذي لم يصنع لك يداً من حديد، قررنا بصفتنا رئيس مجلس القضاء في العراق تحويلك إلى أحد رجال أكس، ونمنحك يداً من حديد لتحقق حلمك، ويرسل بطلب رئيس هيئة الحشد الشعبي ويسأله: كيف يمكن أن تخبئ آلاف الأشخاص من السكان دون أن تعرف الحكومة وأجهزتها مصيرهم أيها الخطير؟
ستجعلك تخبئ أسلحة الدمار الشامل إن تمكنا من صنعها مستقبلا، ويخاطب وزير الداخلية عن قدرته الخارقة باعتقال عشرات الآلاف من المواطنين وزجهم في السجون دون تهم واضحة أو حتى تقديم إلى القضاء، وكيف أقنع السكان بالسكوت عن هذه الأفعال؟ لنتوقف عن التخيل حتى لا يقرأ أحد ذوي المخطوفين أو المغيبين أو المعتقلين كلامَنا ويظن أننا نسخر من مظلوميته، لأن الواقع مؤسف وكل ما ذُكر موجود في الواقع العراقي، أما الفاسدون فلا يستطيع لا جحا ولا حماره ولا أي شخص محاسبتهم لأنهم ببساطة هم الخصم وهم الحكم، نأسف لجحا لإقحامه بالشأن العراقي، ونتمنى له أن يبقى مصدرا للابتسامة والتفاؤل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.