يظن كثير من المراقبين والناقدين أن الخطاب الديني الإسلامي واحد ويبني على هذا الظن كثير من الأحكام والتصورات لكن في الحقيقة هذه الفكرة خاطئة. بعد ثورات الربيع العربي بدأت أربعة تيارات على المستوى الديني بالظهور بشكل جلي وسأستعرض في هذا المقال هذه التيارات الدينية.
التيار الأول وهو التيار الذي وقف مع الحاكم المستبد وأيده وبرر له تصرفاته وشرعن له أفعاله منطلقا من نظرية وجوب طاعة الإمام بشكل مطلق سواء كان برا أم فاجرا عادلا أم ظالما مستدلا بمجموعة من النصوص الدينية التي تأمر بوجوب طاعة الإمام بشكل مطلق وإن جلد ظهرك وأخذ مالك وهتك عرضك ومعتمدا على مجموعة من النصوص الفقهية التي تحرم الخروج على الحاكم مهما كان هذا الحاكم وإن البقاء يوم بدون حاكم هو أعظم على الأمة من البقاء تحت راية الحاكم الظالم بل بالغ هذا التيار في تقديس الحاكم من خلال تصوير أفعال الحاكم المستبد بأنها أوامر إلهية أمره الله عز وجل بها مستمدا صورا من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومقارنا بين أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم وبين هذا الحاكم المستبد مشبها أفعال الحاكم بأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم وممن وقع في هذا التيار أعلام ورموز وعلماء تعتبر مرجعيات لكثير من الناس في العالم العربي والإسلامي.
التيار الثاني وهو التيار المغالي المتشدد في الدين والذي اعتبر أن هؤلاء الحكام المستبدين كفار يجب قتالهم وأنه يجب تأسيس إمارات إسلامية وخلافة إسلامية متمسكين بعدد من النصوص الدينية التي تبشر بوجوب عودة الخلافة وأن إقامة الخلافة أمر شرعي أمرنا الله عز وجل بها وأن مهمة حراسة الدين موكولة إليهم وكل من لم يطالب بهذه المطالب فهو مرتد كافر يجب قتاله. إلا أن هذا التيار شهد اختراقات استخباراتية كبيرة على مستوى القيادة كما أن هذا التيار تمدد على حساب ثورات الربيع العربي التي قامت والتي شهدت فراغا على مستوى السلطة كما في ليبيا وسوريا والعراق.
التيار الأول يلاحظ عليه أنه لم يكن متمثلا بمدرسة فكرية معينة كالسلفية أو الصوفية كما أنه لم يتجسد بشخصيات معينة لها طابع واحد بل شهدنا التنوع في هذا التيار |
التيار الثالث وهو التيار الذي قام كردة فعل على تيار الغلو والتشدد والذي بدأ بحملة التشكيك على كثير من الثوابت الدينية كمسألة الخير والشر ومسألة القضاء والقدر ومسألة الحرية الدينية ومكانة السنة في الشريعة والموروث الديني والنصوص الدينية وتفسيرها وقد انتشر هذا التيار في بلاد المهجر واللجوء.
التيار الرابع وهو التيار الذي قام ضد الاستبداد وأعلن عدم شرعية الحكام المستبدين وساند ثورات الربيع العربي ودعمها وأيدها بالفتاوى والدراسات الشرعية ولم يمالئ مشايخ السلطان وقد اعتمد على النصوص الدينية التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر معتبرا أن هؤلاء الحكام قد فقدوا شرعيتهم عندما مارسوا القتل والتهجير ضد أبناء شعبهم وعندما استقدموا المحتل والأجنبي لقمع ثورات الربيع العربي وقد طالب هذا التيار بإقامة دولة الحرية والعدالة التي تضمن لجميع المواطنين حقوقهم بغض النظر عن أعراقهم أو دينهم أو مذهبهم كما أن هذا التيار رفض الغلو والخطاب الديني المتشدد معتبرا أن هذا الخطاب مرفوض في الإسلام فالإسلام يأمر بالوسطية وينهى عن التشدد ويحارب الغلو والتطرف وقد واجه هذا التيار تيار المشككين في النصوص الدينية معتبرا أن هذا التيار يؤدي إلى تعطيل النصوص الدينية وضياع الدين.
بعد سرد هذه التيارات الأربعة التي ظهرت بعد ثورات الربيع العربي يجب أن ننظر نظرة ناقدة لهذه التيارات حتى تتضح الأمور لكل متابع. أما التيار الأول يلاحظ عليه أنه لم يكن متمثلا بمدرسة فكرية معينة كالسلفية أو الصوفية كما أنه لم يتجسد بشخصيات معينة لها طابع واحد بل شهدنا التنوع في هذا التيار فقد شهدنا عدد من أصحاب الفكر الصوفي وعدد من أصحاب الفكر السلفي كما أن بعض هذه الشخصيات انطلقت من مبادئ نظرية واجتهادات معينة تؤمن بوجوب طاعة الحاكم بأي شكل من الأشكال ما لم يظهر الكفر البواح منه وبعض هذه الشخصيات انطلقت من مبدأ المصلحة والمنفعة والتقرب عند الحكام لينالوا مكانة ومنصبا ومالا وقد نال هذا التيار دعم الحكم والملوك والسلاطين لتبرير قمعهم واستبداهم وشرعنتها.
أما التيار الثاني وهو تيار الغلو والتشدد فقد سعى إلى إقامة خلافة إسلامية في الأراضي السورية والعراقية والليبية وقد استطاع بتسهيل دولي إقامة هذه الخلافة ومما يلاحظ على هذا التيار أنه من أبناء المدرسة السلفية المتشددة كما أنه اعتمد على نصوص دينية فيها إطلاقات كفرية منطلقا لأفكاره كقوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) وقوله صلى الله عليه وسلم (حتى تكون خلافة على منهاج النبوة) ولقد استهوى هذا الخطاب عدد كبير من الشباب المسلم في مشارق الأرض ومغاربها ثم استقطب هؤلاء الشباب إلى أرض الخلافة إلا أنه تبين بعد ذلك أن جميع تلك الأحلام الموعودة في أرض الخلافة كانت سرابا وحلما لم تتحقق وكان لهذا التيار دور كبير في إجهاض ثورات الربيع العربي من خلال الاستعداء الدولي وجلب التحالفات العالمية وتثبيت أركان الحاكم المستبد لأن الحاكم أوهم تلك الدول أنه يواجه هذه المجموعات الإرهابية المسلحة وبدونه ستنتشر هذه المجموعات الإرهابية لتحرير القدس وروما كما ظهر في أدبيات وشعارات هذا التيار.
وقد كان هذا التيار أشبه بتيار الخوارج الذي ظهر زمن الصحابة وقد كفر معظم الصحابة رضوان الله عليهم وشن حروبا قاسية ضد الخلافة الأموية والعباسية. وقد ظهر التيار الثالث كردة فعل على التيار الثاني وهو تيار الغلو ويلاحظ أن أصحاب هذه المدرسة يكثرون من النقد للموروث الديني ويعتبرون أن هذا الموروث هو سبب البلاء والمصائب وأصحاب هذا التيار لا تجمعهم مدرسة فكرية واحدة وقد يختلفون في درجة النقد للموروث الديني حتى صل بعضهم إلى رفض هذا الموروث بشكل مطلق معتبرا أن الموروث الديني هو السبب في وجود الغلو وداعش وينادي بالتحلل من كثير من الأحكام الشرعية لأنها لا تناسب العصر والوقت الحالي وقد يكتفي بعضهم بنقد أفكار دينية معينة وأنه لا بد من التخلص منها لمواكبة التطور والحضارة والمدنية كما يلاحظ أن نسبة من هؤلاء دعموا ثورات الربيع العربي ضد الاستبداد كما أن قسما منهم أيد الحكام المستبدين.
أما أصحاب التيار الرابع وهو التيار الذي أخذ موقف الوسط من هذه التيارات الثلاثة رفض الاستبداد والظلم الذي يمارسه الحكام على شعوبهم فلم يمالئ السلطان ولم يدعمه بل وقف في وجهه وأيد مطالب الشعب بالعدل والحرية والكرامة وكان ذلك سببا في زج الكثير منهم في السجون والمعتقلات وقد انطلق في موقفه من مبادئ نظرية وفقهية وشرعية تحرم الوقوف مع الظالم وتطالب الوقوف في وجهه وأن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر وكذلك رفض تيار الغلو والتطرف والتكفير والتشدد في الدين منطلقا من مبادئ نظرية تنهى عن التشدد والتنطع في الدين وتأمر باليسر والسماحة وأن الإسلام هو دين رحمة للعالمين وللبشرية جمعاء وبسبب مواجهته هذا التيار استشهد عدد من الشباب على يد أصحاب هذا التيار كما أنه رفض التيار الثالث المتهجم على الموروث الديني منطلقا من مبادئ نظرية مفادها التفريق بين الأصول والثوابت وبين الفروع والمتغيرات فالأصول هي التي لا تقبل التغيير والتبديل والفروع والمتغيرات هي التي تقبل التجديد والتغيير بحسب متغيرات الزمان والمكان.
ومما يلاحظ على هذا التيار أنه لم يتمثل بمدرسة فكرية معينة وإنما تشكل من عدة مدراس دينية كالصوفية المعتدلة والسلفية المعتدلة وقد مورس على هذا التيار الكثير من التضييق من الحكام المستبدين لأنهم يعتبرون أن صحوة هذا التيار هو سبب في صحوة المجتمعات الإسلامية لذلك نرى أن معظم أصحاب هذا التيار إما في السجون والمعتقلات أو في بلاد المنفى واللجوء أو هم شهداء عند ريهم يرزقون.
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا التيار عندما قال (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين) إن أصحاب هذا التيار هو الذي أثبت قدرته على الاستمرار على مر التاريخ الإسلامي بالرغم من تعرضه لضغوط كبيرة وقد مر التاريخ الإسلامي بتيارات قريبة من هذه التيارات التي لاحظناها بعد ثورات الربيع العربي إن أصحاب هذا التيار مسؤوليتهم كبيرة فعليهم تتوجه الأنظار وتتعلق بهم الآمال في توحيد رؤاهم ومجالسهم ونظرياتهم حتى يستطيعوا توجيه مجتمعاتهم نحو بناء دولة الحرية والعدالة والكرامة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.