شعار قسم مدونات

"أزمة المنفى" والبحث عن نسيان يحمينا من الذاكرة!

blogs اغتراب

تنهيدةٌ وجسد مُثقل بالهموم لا يتناسبان أبدا مع إقامة طويلة ببلد يعد من أفضل دول العالم مسكنا وأمانا نفسيا وماليا، لكن وسط كل تلك السكينة الظاهرة والرفاه الذي لا تُخطئه العين، أجساد مثقلة بالهموم أفقدها صخب تلك الهموم المزعج أي قدرة على تذوق أي جمال يتسكع حولهم، لا عجب من الأمر فكيف يمكن للسان معطل أن يتذوق حلو الشهد اليماني؟، وكيف لأنف بلا حاسة شمٍّ أن يدرك عبير الزهور؟!

لا تكمن أزمة غربة المصري المنفيِّ المُعارض في كون ما يعيشه مجرد "غربة"، فالغربة التي هي ابتعاد "مؤقت" عن الوطن لأجل عمل محدد بهدف تحسين الوضع المالي والمادي، يمكن التعامل معها كالألم المؤقت الذي يصبرنا عليه اقتراب زواله.. أما "المنفى" فهو غربة قسرية مثقلة بقيد الإجبار على المُغادرة من حيث المبدأ ومختومة بختم الأبدية من حيث استمرارها للانهاية، ولعل اللانهاية قد تُريح أحيانا، لكونها تقطع كل بوادر "الأمل" الذي يبعث في ثنايا حياتنا احتمالات بالخلاص سرعان ما تُدفن في مقابر الواقع.

إن "اللايقين" الذي أصبح يعيشه المنفي أضحى يصبغ كل مسارات حياته، فيزرع فيها على امتداد الخط كل ما تعنيه "ربما" و "لعل" و "يمكن" و "احتمال" و"فرضا" من عذابات أهلكت الفلاسفة وأرقت المفكرين، فما بالك بضعيف مهيض الجناح كدجاجة هزيلة تستعرض قوة ليست لديها لتحمي صيصانها المساكين من هجمات الثعالب والذئاب ولم تدر أنها لا صيصانها ستكون أول الوجبة!

إعلان
تلك الفتاة أو الولد سيعيشون اضطراباتك وتنقلاتك، سيفقدون هم كذلك معنى الوطن، سيولدون بين المطارات والمواصلات، سيتعلمون الإنجليزية والتركية والألمانية لا لأجل الترقي الاجتماعي وإنما للتكيف مع اضطرابك

في أزمة "المغترب/المنفي" يتضاعف الألم حين يكون ما يتألم لفقده هو ما سيتألم لوجوده على السواء، فوطن المنفي يترقبه في كل لحظة كضبع يرقب فريسته، يذكيها نار الفقد والخوف في المنفى، وينتظرها على بوابات الوطن كفريسة سلمت قيادها لقاتلها حين علمت أن لا مفر من القِتلَة، فكان ألمها مضاعفا، فها هي تركن إلى ما فقدته طول منفاها وها هي كذلك تُقتَل بيد ما فقدته لأنه كان يتربص بها. 

وهذا الترقب هو عين الألم، فكيف يمكن أن تشتاق لمعاناتك؟، وكيف تشتاق وأنت تدرك أن ما تشتاقه يشتاق قتلك وسجنك وإيلامك، لعل هذه ما وصموها بمتلازمة "ستوكهولم"، ولا أدري كيف سبقتنا لها ستوكهولم؟!، إن متلازمة مصر أقسى وأسبق ولها في التاريخ شواهد عميقة التأثير والتدمير!

في دنيا "المغترب/المنفي" لا يصبح هدفك النهائي هو النجاح، بل ضمان استمرار المنفى، إنها حرب البقاء بعيدا عن من يريد افتراسك، وهي كذلك معركة لأجل استمرار الألم حتى لا يتوقف النبض!، وهذا يسفد عليك كل مخططات إنجازك، حتى وإن حققتها، سيظل سؤال البقاء و "ماذا بعد" و "إلى أين" و "ومتى" يلح في كل لحظة سعادة ليقتلها ويفقدها طعمها وهويتها وحالتها، ولن تجد لهذه المعادلة حلا. 

ومع استمرار المنفى قد تألف النفس أحيانا استمراريته، ويتسلل من فؤادنا شيئا فشيئا ما بقي من ذكرى الوطن، بل تبدأ بفقدان ذاكرة اختياري للمواقف الجميلة التي عشتها والأماكن التي لامستها خطاك، كما يتسرب من ذاكرتك ما بقي لك من أهل وأقارب، لتسكن مضطرا إلى غربتك متجاهلا كل نداءات الذاكرة والحنين.. لكن ما إن تطمئن إلى نسيانك حتى يطرق الوطن بابك بأقسى طرقه المعهودة.

إنها "الوثائق"، كابوس المنفي وتذكرة معاناته، فأنت لا تدري في أي لحظة يقرر الوطن أن يضاعف معاناتك، ويعطل كامل وثائقك حين تجديدها، جواز سفرك لن يجدد، وشهادات أولادك لن تخرج، وكل ما تريده في الوطن، اذهب هنالك سيعترف بك، سيمنحك وثائقك، تضطرب داخلك المشاعر، بين ما يعنيه الوطن وما ستعانيه من الوطن، تتذكر بوابات المطارات، وتلك الذئاب الرابضة على بوابات التفتيش، وقوائم الأسماء والاستجواب، تتذكر تلك الكلابشات التي جاءت خصيصا لمكاتب الأمن في المطارات لتلتقط كل طير حر يتواجد اسمه على قوائم الانتظار، فتدرك أن معنى الوطن مغتصب من معاناته ولا مفر!

تلك المسكينة؟.. زوجتك!، صرت أنت وطنها، وصرت عذابها، نازعتها أهلها وناسها، وحملتها طفليك!، وأرهقت محياها بانتقالاتك واضطراباتك، لا بيت لها دائم، ولا ظلك لها دائم، وفي أي وقت ستكون هي الخطة
تلك المسكينة؟.. زوجتك!، صرت أنت وطنها، وصرت عذابها، نازعتها أهلها وناسها، وحملتها طفليك!، وأرهقت محياها بانتقالاتك واضطراباتك، لا بيت لها دائم، ولا ظلك لها دائم، وفي أي وقت ستكون هي الخطة "ب"
 

ومع تمدد زمان ومكان الغربة والمنفى، يخلق المنفيون وطنهم الخاص في قلب موج الغربة، لا مفر من أسرة وزواج وولد!، لكن ما مستقبل الولد؟، وما مستقبل الزوجة إن أسرتها من وطنك وحولتها إلى منفية!، كيف تخلق عذابات جديدة أن مصدرها؟، ألم تشتكِ من عذابات الوطن؟، كيف تتحول أنت لوطن آخر لأشخاص آخرين ستخلق عذاباتهم على مر السنين؟ 

إعلان

تلك الفتاة أو الولد سيعيشون اضطراباتك وتنقلاتك، سيفقدون هم كذلك معنى الوطن، سيولدون بين المطارات والمواصلات، سيتعلمون الإنجليزية والتركية والألمانية لا لأجل الترقي الاجتماعي وإنما للتكيف مع اضطرابك الجغرافي الذي لا يتوقف!، لن يكتسبوا أصدقاء طفولة أو عمر، فأنت تغير مدنك ودولك كما تغير ثيابك!

وتلك المسكينة؟.. زوجتك!، صرت أنت وطنها، وصرت عذابها، نازعتها أهلها وناسها، وحملتها طفليك!، وأرهقت محياها بانتقالاتك واضطراباتك، لا بيت لها دائم، ولا ظلك لها دائم، وفي أي وقت ستكون هي الخطة "ب"، حين يغدرك الوطن، ستحمل ما تبقى من تركتك أطفالا وآلاما ومعاناة!

ستظل تلك هي المعاناة غير المحكية في "الغربة/المنفى"، حتى وإن كُتِبَت من مواصلات فارهة لا يمتلكها الوطن، أو من غرفة فندق لم تدركها في قريتك الخربة، أو من شقة حداثية تستقيم خطوطها وتتضاءل اختلافاتها اللونية بلا معنى أو هدف، سيظل "المنفي" يتلظى بين الفقد القسري والوجود المضطرب ولا مفر له من المُر في كل أحواله.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان