شعار قسم مدونات

كيف خدمت كوكب الشرق اللغة العربية؟

blogs أم كلثوم

تظل كل لغة راكدة، حتى يحركها موج من الأشعار أو عواصف من الألحان، فتمحي عنها صفة التواصل اللفظي المجرد، وتضفي عليها اتصالًا عميقًا يغوص في الأعماق، حسي، علوي، قدسي، لا تصفه الكلمات إلّا إذا حُركت بالقافية أو بالنغم. تحركت أم كلثوم كما يتحرك روّاد الأمواج والعواصف باللغة، من شعراء وأدباء ومطربين، لكنها أدت دورًا راقصًا سلب كلّ الأنظار إليها وسط عروض العواصف التي داعبت اللغة لعقود وقرون.

فاحت وانتشرت، ذابت وانصهرت، بين الأبعاد الأربعة، بين المدن والقرى، بين القريب والبعيد إلى أطراف الكوكب، شرقًا وغربًا، زمكانًا، بين الأجيال والعقود. صوت من الشرق، "تملأ المجهول بحته"، وقوته، وعذوبته! حرملك المغنى يحار من انتماء هذا الصوت له، هل يُعقل؟ بأن حرام هذي الرقعة التي ألفت الخجل يفوق حرمة الأقداس من ألحان تقديس، عبادات، تلاوات، وأسفار سوَّر؟

أم كلثوم، عقد على عقد، كطوبة على طوبة، بنت بها هرمًا غنائيًا يخلّد بين كل الناس، كلّ كلمة ألبستها لحن، فكان وصفًا مثاليًا نقيًا لما معنى اللغة. عربية اللحن، والكلمات، والوقفات والسكنات كأنها كانت برفقة أول الكلمات التي نشأت بها هذي اللغة! تنقلت بين المفردات، عرفت تفاصيلًا واختصرت بها طرقًا طويلة، عرفت بأن اللحن أسهل مسلك للمُفردة إلى ذهن الغريب عن اللغة، من أعجمي أو عامّي. ألبست أحلى الكلام أجمل الأنغام، وطافت به بين أسماع المشارق والمغارب، فمن لم يعرف الكلمات جذبته الألحان حتى أدمن التفاصيل وأصبح مشدوهًا بالكلمات يحفظها عن ظهر غيب.

لم تكتفي أم كلثوم بمداعبة اللغة كما اعتاد باقي المطربين، بل هزتها بزلازل أخرجت من بواطن اللغة كنوزها. كانت تثق باللغة كما تثق بنفسها، وتثق باللحن كما تثق بصفاء ذهن سمّيعها المنصت لكلّ هزة

كوّنت كنوزًا من مكاتب شعرية عند مستمعيها، يحفظون قصائدًا مطوّلة لشوقي وناجي ورامي وكبار صنّاع الرقيق من الكلام بالتوازي مع صنّاع الجديد من النغم، مكتبتان عملاقتان موسيقية وشعرية! يحرك الكلثومي أناته شكوى على استبدال مواضع آهات كلثومية، أو فرحته نغمًا سنباطيًا، أو حماسه تعبيرًا بيرميًا. هكذا يجعل كلّ مشاعره وأحاديثه تنقلات بين أغنية وأغنية، قصيدة وقصيدة، لحن ولحن.

لم تكتفي أم كلثوم بمداعبة اللغة كما اعتاد باقي المطربين، بل هزتها بزلازل أخرجت من بواطن اللغة كنوزها. كانت تثق باللغة كما تثق بنفسها، وتثق باللحن كما تثق بصفاء ذهن سمّيعها المنصت لكلّ هزة أو رجفة، يلتقط ما يتسرب.. ويهيم. أخذت منحوتات لغويّة فائقة الدقة والجمال، بأسلوب الأولياء وسحر العارفين جعلتها تنطق! تكلمت هذه القِطَع مع البسيط والأديب، مع الفاهم والجاهل، ومع الصغير والكبير.. فهمتهم وفهموها، وكأنهم لأول مرة قد رأوها، رغم ركود معظمها لعشرات السنين معهم بجمود، لا يعرفها غير القلّة. حتى القلّة ألفوها فقط بعد تحليق أم كلثوم عليها والسير بها إلى عمق العواصف الكلثومية.

جاءت بالقديم فأحيته، جاءت بأبي فراس الحمداني مئوي السنين، فأسمعت روحه لملايين عاشت من القرن العشرين وما بعده. جاءت بالجديد فسلطت عليه الخلود، ساوت بين الأشعار بالأعمار، أعمار لا نهائية! قلّبت كلّ القوالب الغنائية ومررتها على ما رأت منه استحقاقًا للتخليد، فجعلته أيقونةً وروحًا حية لا تموت. فخلدت الحروف وجددت الكلمات وأحيت الأبيات، وبهكذا جعلت اللغة تعيد روحها أمام الجمهور. ناقدة وحاكمة، تغربل القصائد، لا تمر بيت أمامها إلّا وتصدر عليه أحكامًا بالحذف أو التعديل أو المرور، وكلّه موزون، ميزان ما يصبّ في مصلحة الانعاش للغة، وتسهيل العسير لبناء جسر التواصل بين اللغة القديمة الراكدة والمستمع الجديد.

قليل من يعرف الدور الكلثومي في بُنى القصائد التي شدت بها، فقد كانت تلوكها، تعجنها جيدًا قبل حتّى تلحينها. ترى مواضع الضعف الذي قد يصيب الطرب عند النطق بهذه الكلمة أو هذا الحرف، تهتّم بأبسط التفاصيل في القصيدة وتختار أجوّد أبياتها، فتخرج للمستمع ناتجًا مثاليًا أخيرًا أهلًا وحَذِرًا في الوقت ذاته في بناء معرفة لغوية كبيرة لمن يسمعه حتى لمرات قليلة. قرّبت اللغة، وجمّلت جدران القصيدة، نقشت عليها البِدَع الجمالية الباذخة السخية، وجمّعت حولها آلاف الآلاف من الهائمين، كسرت حواجز التفاهم بين العوام والأدب، وفتحت لهم أبوابًا عملاقة حجّوا من خلالها أفواجًا إلى أغوار الأدب، تلذذوا به وعاشوا عليه وانشغلوا به لصنع لغة تفيض أدبًا، وتعصف سلامًا، وتهتز لتخرج من باطنها أجمل ما فيها. أكّدت وشرحت وبيّنت كيف للحن أن يخرج من الكلمات معانٍ لا نهائية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.