شعار قسم مدونات

أنا هو أنا وكلانا يشبه الآخر!

blogs - معرفة الذات

دقّتِ الساعةُ أجراسَها، وفي صباح أحد الأيامِ من شهرِ أيلول، وبين ضحكات كانت تزيّن المكانَ، اعتقدتُ أن الحياةَ ستظلُّ هكذا، جميلةً مريحةً، وأنّ الإنسانَ لا يمكنُ أن يَفقدَ أحبّاءه. يا إلهي! كنتُ أعتقدُ أن الحبَّ وحدَهُ كفيلٌ بإبقاءِ أحبائِنا إلى جوارنا. لكنّ صفعةً غيرَ متوقعة غيّرَت مفاهيمي ومعتقداتي، وزادتني فوق عمري عمرًا، وإن لم يَزْدَدْ عمري بالأرقام، فإنّه ازداد بعمقِ الحكمةِ التي حصدتُها في ذلك اليوم. ذاك اليوم المشمس الذي أظلمَ حينما علا صوتُ الحقيقة التي عليّ مواجهتها؛ بصوتٍ خفيفٍ كان وَقْعُهُ لطيفٌ على مَسْمَعي كأنَّما كانوا مُدركينَ أنّهم يقولونَ شيئًا سيكونُ ثقيلًا على قلبي حتمًا.

قالوهُ لي مِنْ عالمٍ ما يَكمنُ وراءَ التّرابِ، عالمٍ لَمْ يَحِنْ دَوْري لِأَعلمَهُ.. عالمٍ لا أستطيعُ وصفَهُ لأنّي لَمْ أجرّبهُ بَعْد. أنا لا أدري سِوى أنّه مكانٌ تركني هنا وحيدة.. عالمٍ بلا عُنوان.. عالمٍ يُدمِعُ العينَ فتفيضُ دمعًا أحمرَ قانيًا، عالمٍ يُثيرُ النّفسَ فتفيضُ الأشعارَ في النواحي والضواحي، عالمٍ يأخذُ العقلَ بعيدًا ويجوبُ به مِنَ الشرقِ حتى الغرب. لا سبيلَ لِلوصالِ، ولا سبيلَ لِلقاءِ؛ فهم أمواتٌ.. لا سبيلَ للبكاءِ، ولا سبيلَ لِلرثاء؛ فهم أحياءٌ. إنّما نحنُ نَصِلكم، ونرثيكم بالدّعاء بعدما كان وِصالُنا اللقاء.

يا الله، يا رُبَّاه، إلهي، أيُّها الجبّار اجبُرْني، اجبُرِ الشَرْخ الذي أصابَ روحي. اللهم عليكَ بقلبي.. قلبي قلبي يا الله. إنَّ الصرْخَةَ مَلَأَتْ جَوْفي، والحزنَ سَكَنَ فؤادي، والهدوءَ مَلَأَ كياني. حولي فراغ قاتل، عالم بلا أبعاد؛ لا طولَ له ولا عرض ولا ارتفاع، عالم لا ينتهجُ شكلًا هندسيًّا معيّنًا، عالم بلا مركز؛ ثابت لا يدورُ. جاءني صوتٌ من وراءِ الغيبِ: "أيّتها المارّة على الطريقِ المستقيم، لا زلْتِ هناك. حيثُ تعارفْنا وحيثُ وضعنا في جُعبتِنا الكثير من الذكريات، لا زلتِ أنتِ أنتِ. لم يُغيّركِ الزّمانُ ولا حتّى الأقدار وجدَت إلى تغييركِ سبيلًا".

. لديَّ صوت ورأي، وأعرفُ ما أريدُ، قلبي ليّنٌ، لكنّ لديّ قوّة أكبر تميلُ بي نحوَ الاستقامة أكثر فأكثر. لأنَّ العالمَ بحاجةٍ إلى الصدقِ والاستقامةِ والنّقاء والنضج الفكري.

أيّتها المستقيمة لا زلْتِ أنتِ أنتِ كما حدّثتهم عنكِ. لا زلْتُ ألمَحُ في خلاياكِ إبداعًا متوهّجًا، ومهما حاولْتِ أن تبدي كئيبةً وتنطوي على نفسِكِ؛ لا زلْتُ أرى فيكِ شيئًا حيًّا؛ يُضفي لونًا مِنَ الحياةِ في كلِّ أقوالِكِ وأفعالِكِ. جميلٌ ها؟ أن يكونَ اكتئابكِ مليئًا بالحياةِ؛ لأنَّ أمثالكِ لا يليقُ بهم الموت والركود، أمثالك هم أشباه ملائكة؛ كتبَ اللهُ لهم دوام القوّةِ والهدوء. أحدهم يراكِ حلمًا يُمسي واقعًا رويدًا رويدًا، وَيْكأنَّكِ معجزة في زمنٍ قَدْ وَلَّت بهِ المعجزات. أو وَيْكأنَّكِ صخورًا متناثرة قَدْ تجمّعت خلالَ اثني عشرة سنة لِتُمسي جبلًا راسخًا. أمَّا عن ابتسامةِ الحياءِ خاصّتكِ واحمرار وِجنتيكِ وضَحِكاتِ الخجلِ التي تعقِبُ كلماتكِ ونظراتكِ، فَتبْدينَ أكثر النّاسِ صِدْقًا وطرافةً واستقامةً كلّها في آن معًا. قُلْتُ لَكِ: الأقدارُ لَمْ تجدْ إلى تغييركِ سبيلًا.

كانوا يقولونَ لَكِ؛ ستُصبحينَ شيئًا يومًا ما، قولي ليَ الآنَ، هل زرعَ اللهُ فيكِ إيمانًا بأقوالِهم وأخيرًا، وزرعَ فيكِ يقينًا بأنّكِ تقدرينَ حينما تشائينَ، وتقدرينَ أيضاً حينما لا تشائينَ؟ لأنك هكذا تجمّعٌ من خلايا الإرادةِ والمحبّة واللطفِ والهدوء، أنتِ هكذا، مستقيمة، لا أجدُ فيكِ لينًا حتّى في أوْحشِ الظروفِ، بَلْ أجدكِ صُلبةً في مبدئكِ، مناضلةً في طموحِكِ، مثابرةً في أفعالِكِ. أحبَبْتُ أن أقولَ لكِ: لَمْ تجدِ الأقدارُ إلى تغييركِ سبيلًا". نعمْ، هكذا جاءتني اليقظة، فتحتُ عيناي فجأةً على أشدِّ اتّساعٍ لهما، وبدأت ألهثُ كالذي استيقظ من كابوسٍ بعدَ منتصفِ الليل، وقلبي يخفقُ بسرعةٍ، حتّى شعرتُ أن قفصي الصدريّ قد تكسّر وتخبّط، أينَ أنا؟ ومَنْ أنا؟

تذكّرتُ أنّي كنتُ أنا مَنْ مات، كنتُ قدْ فقدْتُ نفسي منذ أكثر من عامٍ، كنت قد توقّفتُ في منتصفِ الطريق. أنتَ تدري يا صديقي! لمّا بُعِثْتُ مِنْ جديدٍ وعادَ الأُكسجين إلى رئتيّ، كنتَ قَدْ سألتَني لماذا توقّفتِ ودخلتي حياةَ القبور؟ توقّفتُ في منتصفِ الطريق؛ لأنّي لَمْ أُحسِنْ اختيارَ أصدقائي، توقّفتُ لأنّي شابّة تفقدُ شغفها بلا سبب. توقّفتُ لأنّي لَمْ أَعْصِ نفسي فَلمْ أستطعْ أن أغلبَها بقوّةٍ أكبر. توقّفتُ لأنّي انتهجتُ طرقَ الآخرينَ، وصفقّتُ للجميعِ بلا أن يكونَ لِيَ رأيٌ أو صوت. توقّفتُ ودخلتُ حياةَ القبور لأنّي لم أَشَأ أن أكونَ قنبلةً قاتلة لهذا العالم البريء منّي ومِنْ أفعالي.

أمّا الآن وَقدْ بُعثتُ مِن جديدٍ، فإنّي أسيرُ في خطًى ثابتةٍ شامخةٍ، والقوّة تتردّدُ بين جدران أوردتي وشراييني. فالمسألة مسألتي، وإنّي شخصٌ ذو معنًى بَل أن معنى الكونَ كلّه ساكنٌ في أعماقي. أنا هُوَ أنا، وكِلانا يُشبهُ الآخر. لديَّ صوت ورأي، وأعرفُ ما أريدُ، قلبي ليّنٌ، لكنّ لديّ قوّة أكبر تميلُ بي نحوَ الاستقامة أكثر فأكثر. لأنَّ العالمَ بحاجةٍ إلى الصدقِ والاستقامةِ والنّقاء والنضج الفكري. حينها سيحبّنا الكونُ ويستقبلُنا ويَقبلُ بِنا بِرَحابةِ صَدْرٍ. وإنّي في ظلِّ كلِّ هذا أستحضرُ قولَ أرسطو: "ما يُميّزُ العقل المنفتح هو القدرةُ على تأمّلِ فكرةٍ بدونِ تبنّيها أو قبولها".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.