لا زال صدى كلماتها يراود مسامعي عندما كانت تتكلم عن جمال التوليب الأبيض وخط السحاب كرمز للصداقة، ولا زلت أتذكر كيف كانت ترى الحزن بداية للسعادة وأنه لا جدوى من السهر إن لم يكن برفقة كتاب يهديك درجة داكنة من الهالات. تلك التي لطالما أكدت عن نفض الغبار عند السقوط وإكمال المشوار وفي كل فرصة تؤكد لي أن هذا العالم مليء بالعثرات وليس طريقا معبدا حتى نعبره بدون وقائع، رنين كلماتها في أذني لا يفارقني وهي تهمس لي عن العتمة المخيفة على أنها مجرد غروب شمس قد حل فقط، كيف كانت تقبح النفور والتعب والفتور، تنهاك عن التقاعس والتكاسل.
لم تكن من محبي كثرة الرفاق كان يكفيها وجودي لتشاطرني محادثاتها الطويلة وإلى جانبها ورقة بيضاء وقلم أسود لتخط عليه باقة من أبجديتها المتنوعة. بداخلي كانت "هي" رمز الشغف والود مولعة بالحياة، تذكرني بجمال الخريف رغم سقوط أوراقه على حافة الأرصفة ولونه الكئيب.. لكنها تجده الفصل الفاصل بين البداية والنهاية المتميز بطبعه الحاد وبمزاجيته المتقلبة وكلما لامسني برده السام كانت تتغزل به على أنه نسيم شق طريقه الطويل ليداعب خديها، كانت هي عنوان السرور بداخلي شمعة موقدة حتى استبدلتها لفترة.. فكنت السبب في انطفائها.
ويحدث أن تغيب عن داخلك لتتهرب من آناك فترة حبا في النظر بعين غير تلك التي اعتدتها لتجد نفسك فاقدا لما كنت عليه، تصيبك لحظات عجز لا تقوى على تجاوزها وأنت الذي كنت تؤمن أن الإرادة مجرد زر وجب الضغط عليه.. تخور قواك فجأة تستنجد بنفسك فتأبى الرد وتستنجد بالآخرين فيتغاضونك، تصرخ في وسادتك عند منتصف الليل وتطوي ركبتيك إليك شاكيا ضعفك الذي أودى بك في بؤرة فزع وخوف لا قدرة لك على مغادرتها، تترك نفسك كجثة مهملة في ركن منسي لعل هناك من يروي ظمأها ويوقد بداخلها شرارة الأمل.. إلى أن يستيقظ أناك ليصالحك وينقدك من كل ذلك الركام.
نحن المسؤول الأول أمام خسارتنا.. حينما نتجرد من مميزاتنا لنتحلى بأخرى ملائمة للمحيط نرتكب جريمة في حق شخصنا لنغدو بدون هوية |
لا ينفعك من تركت نفسك من أجلهم.. طابعك الذي يميزك والذي تخليت عنه أمامهم هو نفس ما سيجعلهم يتخلون عنك لأنك ببساطة ذو شخصية مصطنعة والأصل فيك قد تاه.. شقاؤك حزنك وكل ما أصابك لك وحدك وأنت مجبر على حمله. كثيرا ما يغرنا مصطلح التغيير وإذا بنا فجأة نسقط في التجريد. خير ما فينا صاحبنا الذي يسكننا وإن اشتد بنا الحال وجدناه ونيسا لنا.. ليس علينا ترك دواخلنا ما إن قررنا اكتشاف ما يدور حولنا.. لأننا ببساطة سنكون أضعف، وكيف لا؟ ونحن نتخلى عن جزء منا ونخطو بما تبقى فقط.
كثيرا ما نسمع العديد يردد "يا ليتني عدت مثلما عهدت نفسي" هذا لأننا نسقط أشلاءنا عند المعبر، نتخلى عن صفائنا وحمقنا وشقاوتنا عما يميزنا ويجعلنا "نحن" لنتحلى بما ليس لنا، وعند أول سقوط سحيق ننخر ذاكرتنا مستغيثين بطرف خيط منسي يقدم لنا يد العون. نحن المسؤول الأول أمام خسارتنا.. حينما نتجرد من مميزاتنا لنتحلى بأخرى ملائمة للمحيط نرتكب جريمة في حق شخصنا لنغدو بدون هوية. وما إن تحل بنا نازلة نتذكر كيف كنا نخطو بثبات وبثقة ولم يكن تجاوزنا للمشاكل بشيء يصعب تحقيقه.
في نهاية المطاف ستتذكر أن السند هو ما قامت به يدك اليمنى من أجل اليسرى عندما نفضت غبارها عنها في أول سقوط، والدفيء هو ما قدمه لك فؤادك عندما حل بك صقيع التخلي وأن كل ما يلزمك الآن هو عودة للوراء من أجل مصالحة نفسك حتى لا تخجل أمامها في السقوط المقبل. فلحظات الفشل تتربص بما دائما وليس المخيف الفشل في حد ذاته بل غياب احتضانك لنفسك ولملمة حطامك واستجماع قوتك لإكمال الطريق. خطوة للوراء من أجل لم شمل نفسك خير من إكمال طريق بطباع مكتسبة.. قد يكلفنا القرار فقدان العديد لكن على الأقل ستربح نفسك تلك التي ستهديك الثبات عندما يحل بك الزلزال وتلك سلاحك عندما تجبر على خوض معركتك الخاصة فاحذر أن تتخلى عن عفويتك وحقيقتك ونفسك.. فتصبح لا شيء.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.