لأقل من قرن مضى، كان معظم الشباب في العالم العربي يكتفون بما يدرّسه لهم إمام القرية أو البلدة عن الله تعالى وعن أحكام الدين. وكان الخلاف محصورا في إطار الطبقة العلمية، دون اكتراث كبير من قبل العامة، خصوصا في مبحث الأسماء والصفات. وفي أواخر القرن 19، شهدت الأوساط المسيحية اللبنانية بدايةَ طرح موضوع الإلحاد. ثم انتقلت الموجة إلى مصر من خلال نشر مجلة (الهلال) لعدد من المقالات تطرقت لهذا الموضوع.
أما اليوم، فقد أصبح كثير من الشباب، الذين يتم تربيتهم في المدرسة والجامعة على تنمية الدافع الذاتي للتعلم والبحث وتعديد مصادر القراءة، يجدون صعوبة في قبول جميع المسائل الاعتقادية التي يتم تلقينها لهم، سواء في الإطار المسيحي أو الإسلامي، بل يجد بعضهم أيضا أن كثيرا من المقولات الدينية التي تُردَّد عليهم "تستهين" بعقولهم، وتناقض أحيانا قواعد المنطق الإنساني المشترك الذي يُتعلَّم ويمارَس في مختلف مؤسسات المجتمع.
وقد أدى انهيار الحدود المعرفية (بالمعنى الجغرافي المتعارف عليه)، نتيجة انتشار الكتاب المطبوع وتقنيات المعلومات والتواصل عن طريق الإنترنت والفضائيات، إلى حصول تطور كبير في مناهج البحث، يتسم بجرأة أكثر على رفض المسلّمات، وسعيٍ أكبر إلى البحث العلمي الدقيق. والملاحظ في تاريخ البشرية أن رفض المسلمات الدينية شكّل ظاهرة حاضرةً في جميع الأزمنة والأماكن تقريبا، من رفضٍ للإيمان بوجود الله، إلى تشكيكٍ في نبوة الرسل، إلى تشكيكٍ في البعث والمعاد، إلخ. وشكلت هذه المباحث في القرون الماضية محورا للدراسة في كثير من التخصصات الفلسفية والدينية والعلمية.
ومن خلال الاستقراء، يمكن القول إن مواطن البحث عن صدق الوحي ووجود الخالق وحقيقة الحياة تكمن في مستويات خمسة:
1- الإله (أو الخالق): هل هو موجود أم غير موجود؟ متعدد، أم واحد؟
2- الكون (أو الطبيعة): هل هو مخلوق، أم غير مخلوق؟
3- النفس البشرية: هل هي متميزة فطريا، أم ناشئة عن تطور في الحياة؟
4- الأنبياء والرسل: هل يتلقون وحيا عن خالق، أم أن تجاربهم إنسانية؟
5- القرآن الكريم (أو الكتب السماوية بصفة عامة): هل هو كلام الله أم كلام بشر؟
للإجابة عن هذه التساؤلات، انتهج الباحثون مناهج مختلفة لدراسة ظاهرة التدين والإيمان بالخالق، ألخصها في خمسة مسالك بحثية: البحث الأنثروبولوجي، والبحث العلمي، والبحث الفلسفي، والبحث النفسي في ظاهرة النبوة، والبحث اللغوي في النصوص المقدسة باعتبارها كلام الله.
وأشير بداية إلى أننا حين نتكلم عن مبحث (وجود الله)، نحتاج إلى تحديد السؤال الذي نرغب في الإجابة عنه:
– فهل نريد إثبات "ضرورة" وجود الله، من عدمه؟
– أم نريد إثبات "احتمال" وجود الله، من عدمه؟
– أم نريد إثبات "استحالة" وجود الله من عدمه؟
كما نحتاج، في صورة الرغبة في إثبات "استحالة" وجود الله، أن نتهيأ للإجابة عن الأسئلة المتفرعة عن ذلك: ما هو البديل عن وجود الله؟ أهي الصدفة والعشوائية؟ وما الذي ينجر عن ذلك؟ وبالمقابل، لو انطلقنا من البحث في احتمالات الصدفة والعشوائية، وأثبتنا "احتمال" الصدفة والعشوائية، فهل يعني هذا بالضرورة استحالة وجود الله؟ هل يعني احتمالُ الصدفة والعشوائية حتميةَ عدم وجود الله؟
يعتمد البحث في هذا المسلك على أدوات من علوم التاريخ، والاجتماع، والنفس الإنسانية، والنفس الحيوانية، والأنثروبولوجيا. ويسعى الباحث فيه للإجابة عن الأسئلة التالية:
– متى ظهرت فكرة التدين على وجه الأرض؟
– هل الإنسان "حيوان ديني" بشكل فطري غريزي، وبسبب استعدادٍ أصيل في طبيعته؟ أو أنه اكتسب هذه الصفة إثر عارض ثقافي مفاجئ لدى مجموعة بشرية معينة، شمل مفعوله الإنسانية كلها، بنوع من الامتصاص النفسي؟
– إلى أي حد تعد ظاهرة التدين عريقة في القدم؟ هل سبقت الحضارات المادية؟ تأخرت عنها في الوجود؟ أم اقترنت بها؟
– ما مصير التدين أمام التطورات الفكرية المعاصرة؟
يعتمد البحث هنا على أدوات من علوم الطبيعة، وعلوم الكون، وفيزياء الكم، والبيولوجيا، والسلوك الإنساني، والسلوك الحيواني، إلخ. ويسعى الباحث فيه للإجابة عن الأسئلة التالية:
– كيف نشأ الكون؟ عن طريق الخلق أم نتيجة تفاعلات فيزيائية وكيميائية عشوائية؟
– ما سر النظام الموجود في الكون؟ هل يمكن أن يكون حادثا بالمصادفة؟
– هل يمكن للحياة أن تنشأ مصادفة كما تدعي نظرية التطور؟
– كيف نشأت الحياة؟ وهل نشأت على الأرض فجأة وبأشكال معقدة؟ أم أنها نشأت بفعل تطورات؟
– ما هو منشأ الإنسان؟ وهل انحدر البشر والقرود من سلالات حيوانية مشتركة؟
– كيف نفسر بعض الظواهر السلوكية المنطقية في الطبيعة، مثل ظاهرة الحكمة في سلوك الحيوانات، وروح التضحية لدى الكائنات الحية التي تعيش على شكل مجموعات، والتكافل الموجود بين الكائنات الحية؟
– هل تتحرك كل الكائنات الحية بطريقة عشوائية أم بتناسق وانسجام كامل، يدل على تسييرها بوساطة إلهام إلهي؟
– هل يمكن تفسير ظاهرة الحياة بكل مظاهرها وتعقيداتها وتناسقها ونظامها، بمعزل عن وجود إله خالق؟
ويسعى الباحث فيه للإجابة عن الأسئلة التالية
– هل يمكن استعمال القواعد المنطقية لإثبات أو نفي وجود الله؟
– هل يمكن الثقة في القواعد المنطقية والرياضية في مثل هذه البحث؟
– كيف يمكن استخدام قواعد بطلان الراجح بدون مرجح، وبطلان التسلسل والدور والتفاعل الذاتي، وقانون العلة الغائية؟
يعتمد البحث في هذا المسلك على أدوات من علم التاريخ، والسيرة النبوية، وعلم النفس، وعلم السلوك. ويسعى الباحث فيه للإجابة عن الأسئلة التالية:
– على مدى التاريخ، تتابع أفراد مدفوعون بقوة لا تقاوم، جاؤوا يخاطبون الناس باسم "حقيقةٍ مطلقة" يقولون إنهم يعرفونها معرفة شخصية وخاصة، بوسيلة سرّية هي الوحي، وأنهم مرسلون من (الله) ليبلّغوا كلمته إلى البشر الذين لا يستطيعون سماعها مباشرة.
– هل الظاهرة النبوية ظاهرة موضوعية مستقلة عن الذات الإنسانية التي تعبر عنها (النبي)؟
– هل يمكن أن نخضع شخصيات الأنبياء إلى الدراسة حتى نفهم إن كانوا مدعين أو مرضى نفسيين؟ كاذبين أم صادقين؟
– كيف نميز بين (النبي الحق) وبين (مدعي النبوة)؟
الدراسة النفسية كمدخل لإثبات النبوة وخصائصها: ويجاب فيها على 5 فرضيات
استكشاف هذه المسالك والتدقيق في خطواتها وأدواتها البحثية، سيسمح بإبراز قدرتها منفردةً ومجتمعةً على تقديم إجابات سليمة ومتسقة تقود إلى اليقين العلمي في مبحث (وجود الله) |
أن يكون النبي (ص) مخادعا كذابا، أو أن يكون واهما مخدوعا، أو أن يكون مصابا بمرض عصبي أو نفسي، أو أن يكون ساحرا أو مجرد عبقري، أو أن نقر بأن الوحي ظاهرة مستقلة عن ذات النبي، ولا يتصنعها ولا يتكلفها، وهي حالة ليست اختيارية.
– المقارنة الأسلوبية بين البلاغة النبوية والبلاغة القرآنية.
ويسعى الباحث فيه للإجابة عن الأسئلة التالية:
– من أين جاء النبي بالقرآن؟ من عند نفسه ووحي ضميره؟ أم من عند معلم؟
– نقرأ في القرآن ذاته أنه ليس من عمل صاحبه، وإنما هو قول رسول كريم، ذي قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثم أمين، وأنه تلقنه كما يتلقن التلميذ عن أستاذه نصا من النصوص، وأنه لم يكن له من عمل سوى: الوعي والحفظ، الحكاية والتبليغ، البيان والتفسير، التطبيق والتنفيذ.
– القرآن معجزة لغوية نابعة من مصدر غير بشري. فأين مواطن الإعجاز فيه؟ وكيف تحدى القرآن غير المؤمنين بأن يأتوا بمثله.
وجواب هذه التساؤلات يستدعي التعمق في دراسة الأساليب اللغوية والبلاغية، للحكم على مراتب الكلام وطبقاته، ثم النظر في النص المقدس، لتحديد مواطن الإعجاز فيه. ومن الأمثلة على هذه الدراسات نظريات: النظم القرآني (الجرجاني)، والنظم الموسيقي أو الفاصلة القرآنية (الرافعي)، والتصوير الفني (سيد قطب)، والإعجاز البياني (بنت الشاطئ)، والوحدة البنائية للقرآن (دراز، العلواني). ويعتمد البحث في هذا المسلك على النص القرآني (كمثال على النصوص المقدسة)، إضافة إلى أدوات من تاريخ القرآن، وعلوم القرآن والحديث وتراجم الرجال واللغة والبلاغة والشعر الجاهلي، والنقد الأدبي، إلخ.
وفي تقديري أن استكشاف هذه المسالك والتدقيق في خطواتها وأدواتها البحثية، سيسمح بإبراز قدرتها منفردةً ومجتمعةً على تقديم إجابات سليمة ومتسقة تقود إلى اليقين العلمي في مبحث (وجود الله) وحقيقة الكون وصدق الوحي. كما يسمح لنا ببيان: أي المسالك يوفّر "الحجّة الضرورية"، وأيها يوفر "الحجّة الكافية"، وأيها يوفر "الحجة الضرورية والكافية".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.