شعار قسم مدونات

التوافق الفكري.. حين تتحد الأفكار تستقيم الحياة

blogs - التوافق الفكري

أرسل لي أحد الفضلاء يوماً رسالة هي من أجمل ما قرأت، جاء فيها: قد ينسجم اثنان بينهما فرق كبير في العمر، وقد ينسجم اثنان بينهما فرق كبير في المستوى الاجتماعي، ولكن لا ينسجم اثنان بينهما هوة فكرية.. الفرق في العمر يعوضه التقارب الفكري.

أهمية التوافق الفكري في حياة الإنسان على مر العصور

الحياة لا تستقيم إلا حين تتوافر الجهود وتتفق الأفكار ويتّحد الهمّ ويُعرف الهدف، والتوافق الفكري له أهمية كبيرة لا يتنبه له كثير من الناس، وهذا خطأ فادح ولنعرف هذه الأهمية دعوني أضرب لكم هذا المثال: التتار كانت لديهم قوة لا تُقهر، قوة لم يقف أمامها أحد فقتلوا وسفكوا وخربوا العمران، لا يفرقون بين شيخ ولا طفل ولا امرأة. لما وصلوا إلى العالم الإسلامي انتشرت مقولة بين الناس: من قال أن التتار هُزموا فلا تصدقوه. فلِمَ لم يصمدوا؟ أين هم الآن؟ تبخرهم كان بسبب عدم إيمانهم بقضية واحدة، وحروبهم كانت بسبب المال والسلطة، وكانوا غير متحدين في الفكر والهدف والمنهج، أو نقول ليس لديهم فكر ولا منهج أصلاً.

أصحاب الدعوات في بدايات دعوتهم، أول أمر يقومون به هو البحث عمن يؤمن بفكرتهم ويتبناها ليَسهُل عليهم نشرها وتعميمها في الناس، وحين يحتاج المخلوق إلى غيره هذا يدل على نقصه وافتقاره. اللقاء بين الأفكار والثقافات لا يَقِلُّ خصوبة عن اللقاء بين العناصر الطبيعية، وهو يحتاج حاجة ماسّة إلى وعي وفطنة وحذق، حتى يكون منجباً. والقاعدة في هذا أنه إذا التقت فكرتان ضمن شروط إيجابية فإنه ينتج عن ذلك اللقاء فكرة ثالثة أرقى منهما جميعاً. حيث تؤدي المزاوجة بينهما إلى نضج وتبلور كل منهما، ويتخلص كل منهما من أجزائه المعطوبة من خلال المقارنة ونمو الوعي النقدي. لكن ذلك لا يتم إلا إذا اتسم حاملو الفكرتين بالكثير من الموضوعية والشفافية والهدوء والمرونة الذهنية والرؤية المركبة.

لقد أطال موسى سؤله وبسط حاجته، وكشف عن ضعفه وطلب العون والتيسير والاتصال الكثير. وربه يسمع له، وهو ضعيف في حضرته، ناداه وناجاه

أيها القراء الكرام، إن أنبياء الله تبارك وتعالى هم صفوة البشر وهم خيار البشر، وقد اصطفاهم الله لتبليغ رسالته ودعوة الناس إلى توحيده. لكنهم جميعاً احتاجوا من يفهم فكرتهم ويسندهم في نشرها. نعم أيها الفضلاء، الأنبياء محتاجون لذلك فهذه طبيعة البشر التي فُطروا عليها. لوط عليه السلام لما أُرسل إلى قومه ولم يستجيبوا له، أخذوا يهددونه ولم يكن معه أحد سوى بناته، حتى زوجته كانت كافرةٌ به. حينها شعر عليه السلام بالضعف وقال: "قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ" هود (80). ومعنى قوة هنا كما يقول ابن عبد السلام في تفسيره (أنصار)، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "رحم الله تعالى لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد"، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "فما بعث الله تعالى بعده نبياً إلا في ثروة من قومه"

وهذا موسى عليه السلام كليم الله، بمعنى له علاقة مباشرة مع ملك الملوك مع من هو قادر أن يقول للشيء كن فيكون، فحين أمره سبحانه وتعالى أن يذهب إلى فرعون ورأى معجزة العصا واليد.. طلب موسى من الله طلباً غريباً قال تعالى: " قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا (35)". يطلب من الله أن يكون له معيناً من البشر وسنداً له في دعوته، فطلب من ربه أن يعينه بأخيه يشد أزره ويقويه ويتروى معه في الأمر الجليل الذي هو مقدم عليه.

والأمر الجليل الذي هو مقدم عليه يحتاج إلى التسبيح الكثير والذكر الكثير والاتصال الكثير. فموسى عليه السلام يطلب أن يشرح الله صدره وييسر له أمره ويحل عقدة من لسانه ويعينه بوزير من أهله. كل أولئك لا ليواجه المهمة مباشرة؛ ولكن ليتخذ ذلك كله مساعداً له ولأخيه على التسبيح الكثير والذكر الكثير والتلقي الكثير من السميع البصير.. "إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرً".. تعرف حالنا وتطلع على ضعفنا وقصورنا وتعلم حاجتنا إلى العون والتدبير.. لقد أطال موسى سؤله وبسط حاجته، وكشف عن ضعفه وطلب العون والتيسير والاتصال الكثير. وربه يسمع له، وهو ضعيف في حضرته، ناداه وناجاه. فها هو ذا الكريم المنان لا يُخجل ضيفه، ولا يَرُد سائله، ولا يبطئ عليه بالإجابة الكاملة، قال: "قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَىٰ".

أما عن عيسى عليه السلام، فقد كان له حواريون يشدون من أزره قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ ۖ فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ ۖ. فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ". والحواريون هم تلاميذ عيسى – عليه السلام – قيل: الاثنا عشر الذين كانوا يلوذون به، وينقطعون للتلقي عنه. وهم الذين قاموا بعد رفعه بنشر تعاليمه وحفظ وصاياه، والآية هنا تهدف إلى تصوير موقف لا إلى تفصيل قصة، فنسير نحن معها في ظلالها المقصودة إلى الغاية من سردها في هذا الموضع من هذه السورة.

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ" في هذا الوضع الكريم الذي يرفعكم إليه الله، وهل أرفع من مكان يكون فيه العبد نصيراً للرب؟! إن هذه الصفة تحمل من التكريم ما هو أكبر من الجنة والنعيم.. كونوا أنصار الله، "كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ".. فانتدبوا لهذا الأمر ونالوا هذا التكريم.

blogs - المسجد النبوي (رويترز)
blogs – المسجد النبوي (رويترز)

وهذا نبينا صلى الله عليه وسلم حين بدأ دعوته المباركة، أخذ يجمع الناس حوله فأسلم أبو بكر الصديق، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وسعيد بن زيد، وعلي بن أبي طالب.. وغيرهم من عظماء الصحابة الذين كانوا النواة الأولى في نشر هذا الدين. فكانوا يفهمون النبي صلى الله عليه وسلم كان منهم وهم منه رضي الله عنهم، وهذا الجيل الفريد من نوعه، كيف لا وقد رباه النبي صلى الله عليه وسلم تربية ليس لها مثيل في تاريخ البشرية.

واسمعوا هذا المثال الذي يدل على الترابط ويدل على اتحاد الفكرة، وكيف أنهم أصبحوا شيئاً واحداً مع قائدهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إن اللَّهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي مَا يُبْكِي هَذَا الشَّيْخَ أن يَكُنْ اللَّهُ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْعَبْدَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا قَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ لَا تَبْكِ أن أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أُمَّتِي لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ وَمَوَدَّتُهُ لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ بَابٌ ألا سُدَّ ألا بَابُ أَبِي بَكْرٍ".

تأملوا أيها الكرام كيف فهم مقصده وكيف أصبحوا وكأنهم شيء واحد، وهذا يحدث مع جميع البشر حين تتحد فكرتهم ومشاعرهم. وهناك الكثير من الأمثلة لكن أكتفي بهذا خشية الإطالة. وهنا أريد أنبه إلى أمر في غاية الأهمية حينما نقول (التوافق الفكري) لا يعني التوافق الكلي، كلا، بل القصد أن يكون توافق في كثير من الاشياء والاختلاف سنة من سنن المولى تبارك وتعالى، وقد قرَّر القرآن الكريم ما يشير إلى هذه الحقيقة على ما نجده في قوله تعالى: "وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ". حيث أن الإشارة التي نلتقطها من هذه الآية: وفوق كل ذي فهم وذي تقوى وذي جمال وذي غنى، من هو أجمل وأفهم وأتقى وأغنى منه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.