شَغَل سؤال (لغة الفطرة) العديد من الفلاسفة والمفكّرين منذ قديم الزمان: ما هي اللغة التي فطر عليها الإنسان؟ كيف كانت اللغة التي كنا سنتكلم بها لو لم نكن نتكلم لغتنا الحاليّة؟ وما هي أهمية تلك اللغة؟ وللإجابة على هذا السؤال أَجرى العديد من الأشخاص تجارب مختلفة ومتشابهة لكشف الغطاء عن هذه اللغة، ومن هذه التجارب كانت أشهرها تجربة الملك (فريدريك) والتي كانت تجربة مأساوية بشكلٍ كبير.. وسنتعرّف عليها فيما يلي:
مات الأطفال! مات الأطفال بعد معاناة مع الصمت والرهبة، فكان موت الأطفال مفاجأة، فبالرغم من العناية الجيّدة بهم إلا أنهم كانوا يعيشون في صمت تام، بدون اتصال ولا تواصل، وكأن اللغة والحديث يُعد بمثابة غذاء كان ينقص الأطفال!
كانت هذه التجربة في الزمن القديم، أما أشهر محاولة للتعرُّف على اللغة الأم وأهمية ما تمثله اللغة في الحضارة الإنسانية في العصر الحديث ظهرت في فرنسا، في حكاية صبي غابة (أفيرون).
نحن لا نولد على فطرة لغة معيّنة، نحن نولد لا فرق بيننا وبين الحيوانات سوى الشكل فقط، نتعلم اللغة والعادات والتقاليد من المجتمع. |
تقول القصة: بعد اندلاع الثورة الفرنسية بعشر سنوات، في شتاء عام (1799م) فوجئ المجتمع الفرنسي بطفلٍ عارٍ في غابة (أفيرون) في عمر الثالثة عشر، ظهر الطفل للناس طلبًا للغذاء والدفء. وبعد عناء طويل تخلله عمليات عضّ وخربشات للمحاولين الإمساك به، نجحوا في السيطرة عليه. كان طفلًا عاريًا تفوح منه رائحة قذارة حيوانات الغابة، قوي العضلات ويسير كما تسير الحيوانات منحنٍ، وتخلو ملامح وجهه من أي ملامح أو مشاعر رحمة أو تودد!
ورغم ما كان يُشاع وقتها أن هذا الصبي ولد لأسرة رمته في الغابة بعد اكتشافهم أنّه طفلٌ أبله، إلا أن الدكتور (جين مارك إيتار) رفض هذا الادّعاء تمامًا، وأيقن أن هذا الكائن الذي أمامه ما هو إلا إنسان لم يتّصل بالمجتمع الإنساني منذ أن بدأت حياته على الكوكب. كانت حياته خالية من الصوت الآدمي، صاخبة بأصوات الحيوانات. فحاول الدكتور (إيتار) لعدة سنوات لتعليمه الأكل والشرب الطبيعيين، وكيفية الانتصاب كالبشر وقضاء الحاجة؛ فنجح معه بعد عدّة سنوات.. عدا في شيء واحد، هو (اللغة).
فاللغة كما يرجّح الدكتور (إيتار) هي العامل الأساسي الذي ساعد على قيام الحضارات والتواصل بين البشر، والتي ساعدت الإنسان في تنمية قواه وأدواته والوصول إلى درجة كبيرة من التحكُّم في الطبيعة، وهو ما حُرم منه صبي (أفيرون)، فبدون المجتمعات الإنسانية المتّصلة والمتواصلة مع بعضها باللغة والقوانين والاشتراك في الغذاء والدفاع كنا سنكون جميعًا أشبه بصبي (أفيرون).
إذن، هل نولد على فطرة لغة معيّنة؟ الحقيقة أنّه لا. نحن لا نولد على فطرة لغة معيّنة، نحن نولد لا فرق بيننا وبين الحيوانات سوى الشكل فقط، نتعلم اللغة والعادات والتقاليد من المجتمع. فمن ولد في مصر؛ تعلّم العربية وآمن بالإسلام أو المسيحية، كان من الممكن أن يولد في أي مكان آخر في العالم ويتعلّم لغة أخرى ويؤمن بدين وأفكار مذاهب أخرى.. ويرجع سبب اللغة والإيمان والأفكار والعادات للمجتمع ولثقافته، وليس للفطرة البشرية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.