شعار قسم مدونات

الجامعة.. معبد "المِينْيُونَزْ" والنموذج المستحيل وثورة المنبوذين!

blogs تخرج

2799م قام علماء الآثار بجولة في مكان يعملون على استكشافه، مليء بأطلال تدل على حضارة قد مرت من هنا. جدران تتلاشى بجبروت الزمان، تتهافت على بعضها بشرود يبعث الحيرة والقلق في جوف المشاهد. عثر أحدهم على لوحة تحمل جملا غريبة، بجانبها لغة أخرى يفهمونها، كانت الجمل تتحدث عن هذا المكان وتصفه بأنه مكان العلم والمعرفة يُسمى بالجامعة، وأنه مكان كالمعبد يوجد النموذج المستحيل في أعلى الهرم له مكانته المُقدسة يحيط به المِينْيُونَزْ (التوابع الأغبياء) بينما يوجد المنبوذون على الهوامش، والذين تحدد مصيرهم ومستقبلهم بجرة قلم من النموذج المستحيل.

لم تتحدث اللوحة عن هذا فقط بل تحدثت عن مقبرة جماعية تحتوي على الكثير من جثث المنبوذين المتآكلة في أوراق الامتحانات، الذين كان مصيرهم هكذا لأنهم قاموا بثورة ضد النموذج المستحيل لأنه يُجمد الإبداع وينشر الغباء ويصنع الآلات الغبية من المينيونز. من هذا الوصف الذي كُتب في لوحة الترشيد، استنتج العلماء أن هذه الأطلال التي أمامهم ما هي إلا أطلال جامعة احترقت بنيران ثورة المنبوذين واللامنتمين.

الآن، فلاش باك، تشوه التعليم الجامعي أو يمكنني أن أقول أنه تجمد في مكانه وصار يقتل الإبداع في نفوس الطلاب، ولا يقبل سوى بالتوابع الأغبياء الذين يرون في الأستاذ المُحاضر، ذلك النموذج المستحيل الذي لا يُمكن بلوغه ولكن يُمكن تقليده. تشكيل ذهني معتوه، يضرب في أعماق الذكاء الإنساني، الذي يسعى إلى التحرر من المُعطى للوصول إلى ما يجب أن يكون باستغلال الإمكانيات المتوفرة لديه، يضرب في أعماقه ويُحاول تعفينه.

أصبحت الجامعة إبادة للذكاء لبناء حضارة الذاكرة، إنه إهمال للمهارة وتقديس للمعلومة، إنه تقزيم للاستقلالية وتعظيم للتبعية، إنه احتلال مُقيت يلتهم بجنون الإبداع، ويتغوط التفاهة باستمتاع شبقي مثير للاشمئزاز

ما هدف التعليم الأكاديمي؟ هل هو تشكيل نسخ من الصور المثالية التي يُقدسها الأكاديميون؟ أم أن غايته هي وضع الطالب في المسار وإرشاده لتطوير المعرفة بذكائه المستقل؟ لا يمكنني أن أجزم، ولكن الملاحظة ومعايشة الواقع، لا تتركان لي مجالا للتردد، فلا أستطيع أن أقول أن التعليم الأكاديمي يُربي الاستقلالية في نفوس الطلاب، وإنما ما يلاحظ هو أنه يُقزم شخصية الطالب، ويَقصها حسب المقاسات المطلوبة من مجلس الحكماء ذوو الأصابع الطويلة التي تنتهي بأظافرة حادة، وتُمسك بالقطعتين الخشبيتين المتقاطعتين اللتين تتحكمان في دمى المَارْيُونِيط من أعلى. إنها لعنة إسكولائية تتمدد من العصور الوسطى التي كانت تعتبر بأن أي كلام قاله أرسطو صحيح ولا يمكن تجاوزه. لقد مثل أرسطو النموذج المستحيل الذي لا يمكن بلوغه ولكن يُمكن فقط حفظ ما يقوله وترديده، ومن يحفظ أقواله ويستشهد بها سيُنعت بالمُعلم الثاني أو الثالث المهم أنه لن يكون الأول، فالعرش لشخص واحد، وأرسطو يجلس عليه بمهابة سلطانية خالدة.

لم يستطع أحد أن يبلغ مستوى أرسطو، لأنه نموذج مستحيل، لم يستطع المينيونز أن يصلوا لمستواه لأنهم ظلوا أتباعا أغبياء لم يستطيعوا أن ينالوا من نموذجيته. ظل الأمر هكذا إلى أن أسقط المنبوذون واللامنتمون صرح المعبد الإسكولائي، وهدموا تمثال أرسطو وحطموا نموذجيته المستحيلة، رغم معارضة التوابع لذلك، إلا أن معبد الإسكولائية سقط، وأشرق عصر النهضة.

النموذجية المستحيلة يصنعها جبروت الشخص الذي يعتقد أنه يمتلك المعرفة، ولكن تستمر كذلك بسب المينيونز، ولعابهم الذي يسيل منهم من كل مكان كلما شاهدوا نموذجهم المستحيل، ككلاب رأت صاحبها الذي غاب طويلا إلى درجة عوائها بالوحشة. لا يستطيع المينيونز فعل شيء سوى الحفظ والإحاطة بالنموذج المستحيل الذي يجد المتعة في هذا، وكأنه يتلذذ بامتصاص شخصيات التوابع، ويتغذى بها، مُعتقدا أنه محور الكون، وتبا لثورة كوبرنيكوس.

إنها إبادة للذكاء لبناء حضارة الذاكرة، إنه إهمال للمهارة وتقديس للمعلومة، إنه تقزيم للاستقلالية وتعظيم للتبعية، إنه احتلال مُقيت يلتهم بجنون الإبداع، ويتغوط التفاهة باستمتاع شبقي مثير للاشمئزاز. تكبيل مثير لصيرورة العقل، المنزاحة إلى الإبداع وتجاوز ما هو مُعطى، إنه تسخيف للعطاء الفردي الشاب، الذي يبحث عن المعرفة، ولأن الجامعة هي التي تحتكر حق تقييم شخصية الفرد إن كان ذو معرفة أم لا، فإنها هي من تمتلك السيف الذي يعطي بضربتين لطيفتين على كتفي الشخص اسم الفارس المتألق، أما إن كنت من المنبوذين الذين رفضوا التعليم الجامعي الجامد فإنك ستعيش عيشة ضنكة، كمطرود من محكمة التفتيش العادمة للحياة المعارضة.

لن تجدوا الإبداع الآن سوى في اللامنتمين المنتشرين على هوامش الجامعات، الذين رفضوا العقلية الأكاديمية، وصاروا يبنون المعرفة بطريقة فنية تتجاوز الطريقة الكلاسيكية في تغذية العقول بالمعلومات
لن تجدوا الإبداع الآن سوى في اللامنتمين المنتشرين على هوامش الجامعات، الذين رفضوا العقلية الأكاديمية، وصاروا يبنون المعرفة بطريقة فنية تتجاوز الطريقة الكلاسيكية في تغذية العقول بالمعلومات
 

إذاٌ، الذكاء أم الذاكرة؟ الإبداع أم التفاهة؟ التغيير أم التكرار؟ المهارة أم المعلومة؟ إنه تقسيم متناقض وإن كان لا يُحتِّم في الأول والأخير الصراع، وإنما يُعبّْر عن التكامل المنسجم، فإن هذا التكامل لا يُنكر الأولوية، فالذكاء أولى من الذاكرة والمهارة أولى من المعلومة، وهذا إن كان يُعطي للطرف الأول مكانة أولية فإنه لا يُفني الطرف الثاني. أما التناقض في الثاني (الإبداع أم التفاهة) والثالث (التغيير أم التكرار)، فإنه طبعا يُحتِّم الصراع لا محالة، وليس طبعا صراع منافسة، وإنما صراع وجود وإفناء، صراع حول المكانة، حول من يتحكم في المكان والزمان.

يجب على الجامعة أن تبني صرحا جديدا من التعليم يتميز بالاستقلالية والإبداع والتطور، ويعطي الأولوية للذكاء على الذاكرة، والمهارة على المعلومة، وألا يجعل من الطلاب مجرد توابع ومن الأستاذ ذاك النموذج المستحيل الذي لا يمكن بلوغ مستواه أو حتى تجاوزه. إن عقلية حصر التجاوز، وإفناء قوة التحدي، ستقضي عن أي إبداع ومهارة وستجعل الجامعة كدورة أبدية مملة تتكرر سماتها بتباطئ متعجن. ولكيلا تسقط الجامعة في هذا المستنقع يجب أن تُولد في طلاب شخصية الطامح لملك القراصنة في وان بييس.

لا أحد يملك المعرفة والجميع يسعى إليها، والفرق هو أن هناك من يستثمر ما عَرِف بإبداع وهناك من يُكرر ما اكتسبه بتفاهة، لا تُقاس المعرفة بامتلاك الكثير من المعلومات واستعراضها، وإنما تُقاس بطريقة استثمار هاته المعلومات بأسلوب إبداعي مُتجدد يتجاوز الآنية ويَحط بجناحيه على الإمكانيات الحاضرة هنا وهناك (زمانا ومكانا) بالقوة (بمصطلح المعلم الأول). لن تجدوا الإبداع الآن سوى في اللامنتمين المنتشرين على هوامش الجامعات، الذين رفضوا العقلية الأكاديمية، وصاروا يبنون المعرفة بطريقة فنية تتجاوز الطريقة الكلاسيكية في تغذية العقول بالمعلومات. إن اللامنتمين هم من سيهدمون معبد النموذج المستحيل وسيقضون على ثقافة المينيونز، وبهذا ستتلاشى حضارة الذاكرة لتُبنى حضارة الذكاء، إنهم الجيش الثوري الثقافي الذي سيبني عصر النهضة الجديد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.