شعار قسم مدونات

الصداقة الحقيقية كنز لا يفنى!

blogs أصدقاء

لا شك أن الحياة سلسة متشابكة، بسيطة ومعقدة، كثيرة الحلقات والعقد، هي تلك الصيغة اللامتناهية للكون برمته، فردا وجمعا، فاختلال حلقة واحدة بمثابة تأزيم لكل السلسلة وانهيار نسبي أو مطلق للطبيعة الكونية، أخلاقيا وقيميا، فتتمظهر حالات غريبة لأنماط العيش تنم عن تدهور خطير في القيم والوعي الجمعي وتتغير جذريا كل معاملات البشر التي صارت مبنية على العطاء بالمقابل والأخذ بدونه، على المتاجرة في الذمم والأعراض، على الفردانية وعلى أنا وما بعدي الطوفان.

 

لقد تكرست، فعليا، سياسة الجمع الواحد فأصبحت تبعا لذلك المصالح الخاصة جوهر الحياة عند السواد الأعظم وفي المقابل تجرد الإنسان من قيمه المثلى وصفاته البريئة التي جبل عليها فاستوطنته، منذ الصغر، قوانين الانتهازية المقيتة والأنانية المفرطة والنفاق الاجتماعي، فمنذ القدم ونحن نصارع من أجل الارتقاء لمستوى الإنسان وتسابقنا، جريا وحبوا، لنصل لنقطة الوصول ظنا منا أننا حققنا إنجازا لنكتشف أن لافتة نقطة الوصول كتبت حروفها بدم الإنسان: الإنسان عدو لأخيه الإنسان، فافترقنا والتقينا، واقترفنا وانتقينا، وما عاد يعنينا الإنسان.

 

فالعجب العجاب، أن هذا الإنسان احتل الأرض طولا وعرضا وسلك سبلا لتذليل مصاعب الحياة وقهر متاعبها، واستعمر الفضاء وفاق بعلمه وعمله كل ما يمكن تخيله، لكن عجيب أمر هذا الكائن، الذي لا يستحي، لم يستطع هزم الحيوان بداخله ولم يستطع كسر قيود العدوانية في مناحي حياته، لم يستطع العودة والنكوص لذلك الطفل البريء القابع بين أضلعه ويجعل من القيم الفضلى والخصال النقية دستورا لوجوده ونقودا لمعاملاته، أم أن تلك المفاهيم القيمية، كالصدق والصداقة، والحب والمحبة، والذوق والإيثار، والأسلوب المهذب صارت عملات نادرة الوجود إن لم نقل منعدمة الكينونة.

لا شك أن لكل منا نقط جغرافية تستهويه وتشد ذكراه لأمر معين أو حكاية قديمة تروي سيناريوهات جميلة أو حزينة، لكني أشعر قليلا بالاختلاف عن الآخرين حينما تطأ قدماي مدينة البوغاز

إذا أردنا الخوض في تحديد مفهوم واحد لهذه القيم فحتما يلزمنا أنهارا من مداد وغابات أوراق من أجل إيفاءها حقها من الشرح والتوضيح، سنكتفي اليوم بالحديث عن قيمة مثلى واحدة وقيمتها في سيرورة حياتنا، عند افتراقنا والتقاءنا، عند اقترافنا وانتقاءنا، سنتحدث عن فضيلة تجمع بين طياتها كل معاني الحب الجميل والمحبة الصادقة، هي كنز ثمين يفتقده الكثير منا إلا من أنعم الله عليه به، هي محور أساسي لكل علاقة إنسانية طاهرة من كل مصلحة وانتهازية، ظاهرة لا تخشى المن وسرية لا تخاف العلن، هي قريبة جدا أقل من القرابة أو أكثر قليلا، هي فعلا حياة من نوع آخر يسودها الاحترام المتبادل والحب والمحبة والثقة المطلقة بأن كلا طرفي المعادلة يحملان في جوفيهما لبعضهما البعض كل الخير والأمان، عن صداقة صادقة أتحدث.

لا شك أن لكل منا نقط جغرافية تستهويه وتشد ذكراه لأمر معين أو حكاية قديمة تروي سيناريوهات جميلة أو حزينة، لكني أشعر قليلا بالاختلاف عن الآخرين حينما تطأ قدماي مدينة البوغاز، تتساقط ذكرياتي كما أوراق شجر الخريف لتستحوذ ذكرى الأصدقاء ومتانة الصداقة الطيبة وابتساماتهم الرقيقة لأبدأ في استحضار كل اللحظات التي جمعتني معهم في كل بقاع المغرب وخاصة في نقطتين اثنتين يستحيل نسيان أصدقاء تعرفت عليهم فيهما، مدينة البوغاز طنجة والقلعة الصامدة ظهر المهراز بفاس.

 

فالموقع الأول ارتبطت به صداقتي التي أفتخر بها مع البعض أشد ارتباط، في مرحلة اتسمت، بالحضور والغياب، بالغربة في الوطن وفترات الاستغلال البشري في أبشع صوره وتجلياته داخل زنازين الرأسمال، بالتجوال هنا وهناك، بمباريات كروية لا تحصى ولا تعد، هنا التقينا وما افترقنا، انتقينا وما اقترفنا، والصداقة التي ولدت بين جدران الحي الجامعي الثاني بساحة الشرفاء، ونمت على أرصفة ساحة عشرين يناير، وساهمت في توطيدها وتوحيدها كل المطاعم التقليدية للبروليتاريا والنادي الجامعي الذي لن أمل من احتساء قهوة الصباح والمساء به، هناك بزغت علاقات فوق العادة لم تكن في الحسبان، هناك صدقا التقينا وما افترقنا، اختلفنا وما اقترفنا، التقينا وما نالت من صداقتنا جغرافيا البعد ومتاعب الحياة التي أرغمتنا على الانتظار لبعض الشهور من أجل اللقاء وما أحسسنا يوما بالهجر والبعد، فكلما ابتعدنا اقتربنا وكلما افترقنا التقينا وما افترقنا ولكن خيل لنا.

إن زيارتي لمدينة طنجة تحيي في دواخلي طعم الحياة لصداقة تستحق التنويه والفخر وتدفعني أن أرفع قبعة الاحترام لمن يقدرون معنى الصداقة الحقيقة ويعلمون حقيقة معنى أن يكون لديك صديق لا تستهويه المصالح ولا تسكنه الانتهازية، يقدرك في غيابك ويرفع معنوياتك، يتألم لألمك ويفرح لفرحك، لا يكل ولا يمل من تقديم النصائح لك، نجاحك نجاحه وفشلك فشله، حينما تجالسه لا تشعر بالزمن فمهما كانت أحوالك حزينة إلا وانتفضت فرحا أنك أمام صورتك الحقيقية الصادقة فتبتسم غبطة وانشراحا وتبدأ حكاية جديدة لا تنتهي. الصداقة الحقيقية كنز لا يفنى وسر كثير من لا يعرف قيمته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.