شعار قسم مدونات

سيكولوجية الحب.. كيف لنا أن نحيا بغير حب؟!

blogs الحب

"ﻻ ﺗﻜﻦ ﺑﻼ ﺣﺐ ﻛﻲ ﻻ ﺗﺸﻌﺮ ﺑﺄﻧﻚ ﻣﻴﺖ، ﻣﺖ في ﺍﻟﺤﺐ، ﻭﺍﺑﻖ حيَّاً للأبد"
– مولانا جلال الدين الرومي

كيف لنا أن نحيا بغير حب؟ بغير شغف اللقاء الأول وعنفوانه؟ لماذا يتحتم على المرء أحيانًا أن يبني لنفسه سجنًا؟ إلى هذا الحد يطيق أن يعيش داخل نفسه؟ ما أتعس أولئك الذين يبنون أقفاصهم بأيديهم! هل يمكن أن يصل المرء في بعض اللحظات إلى أن يفقد الإحساس بكل شيء؟ ماذا يعني إن يصبح قلبك لا تحركه تغريد العصافير في الصباح الباكر؟ ولا بكاء طفلٍ فقد أحد والديه؟ أتساءل كثيراً عن جدوى أن نتنفس ونحن مَمْسُوخِينَ من الخاصيّة النبيلة في نفوسنا. كلما فقدنا إنسانيتنا أكثر اقتربنا من الموت أكثر. لا أريد أن أكون مخلوق فضائي، أو سوبر مان، ما أريده هو أن أكون إنسان أشعر بخصائصي الطبيعية، النجاح والفشل، الرغبة والفتور، الجوع والعطش، الحب والكره، القوة والضعف.

نحن نعيش في عالم طغت فيه المادة على العقول والقلوب، وأصبحنا كما الرجل الآلي جسد بلا روح، وربما ننسج علاقة، صداقة، زواج، دون صدق.. نبض.. نشوة.. حياة. قد يكون من مساوئ التقدم التكنولوجي أنه جعلنا نتعامل عبر العالم الافتراضي فنبني بيننا حواجز؛ فنخسر الكثير من مشاعرنا. لا أريد أن يموت شيئًا في داخلي، أو أن ينطفئ وهجهًا كان ينير قلبي، هذا يعني موتي إكلينيكيا، ما أجملها من متعة روحية أن تنبض القلوب المتحابة على نفس الوتيرة، وذات الإيقاع، وتنصهر في بوتقة واحدة. أريد أن أشعر بمتعة الحديث، ونهاية اللقاء، انها حرارة الحب، ودفء الكلمات، وانجذاب الأرواح. يقول الشيخ محمد راتب النابلسي :"تقاعد أحد الأساتذة، وأُقيم له حفل وداع كبير جداً، وهو أستاذ علم النفس، فقال كلمة تأثرت لها كثيراً، قال: أي إنسانٍ لا يشعر بحاجةٍ إلى أن يُحِب، كما أنه لا يشعر بحاجةٍ إلى أن يُحَب ليس من بني البشر ، إذا كنت من بني البشر ينبغي أن تشعر بحاجة إلى أن تُحِب أو إلى أن تُحَب".

في هذه الحياة تعلمت شيئًا مهمًا؛ أن أقاتل في سبيل ما أريد، لا أؤمن كثيرًا بالظروف والعقبات، عليّ أن أذلل الصعاب ما استطعت إلى ذلك سبيلا. كل ما في الأمر أريد أن أعيش بداية الحب ونصفه وآخره، وأقاتل بشراسة في سبيل ذلك؛ لأنه يجعل لحياتي معنى أن أملك مشاعر صادقة؛ هذا كفيل أن يجعلني أتنفس، أكون حيًا روحًا وجسدًا. إن شعث نفسي المبعثرة لا بد لها من روح تلمها وتحتويها كي ننصهر معًا في عالم الروح. الحب هو عبارة عن إشعاعات غير مرئية إلا للمتحابين. لا أحد يعرف السعادة التي يمتلكها هؤلاء؛ إلا الذين مُلئت قلوبهم بالأسرار، نحن لا شيء دون الحب، الروح ميتة وإن كانت الأجساد تتحرك، والعيون تنظر، والقلوب تهفو؛ لأننا فقدنا الشعلة التي تنير فينا جذوة العشق. ما أتعس أولئك الذين يقضون حياتهم دون الولوج إلى حياتهم الحقيقية إلى الالتصاق بجبلتهم الطبيعية. إن الإنسانية لن تخسر شيئًا إذا لم أكتب هذا المقال. ولكنِ سأخسر الكثير جدا؛ أن أكون بلا إِدراك، حُنُوّ، حِسّ، شَفَقَة، شُعُور، عاطِفَة، وَعْي، إدراك، يعني أنني أضحيت في حاله احتضار، واضمحلال، وتَلاَش، وفي النهاية أصل إلى أن أماثل الجمادات!

المحبين دائمًا موصولة قلوبُهم لا يفترقون ويلتقون أينما شاءوا، لا تفرقهم الأمكنة، ولا قيمة للمسافات بينهم، هم في البعد أقرب، وفي القرب أشد احتدام

ما أريده هو أن أشعر دومًا بالحنين إلى الأرواح التي تماثلني والعيون التي تأسرني، والجمال الذي يُذيبني، والأزهار التي تُريح ذاكرتي، والقمر الذي يريني مرآة نفسي. لن يجلب أحد إليك السعادة طالما أنت غير راغب بها، اعلم أنا هناك من يشبه روحك في هذا العالم؛ لذلك ابحث عنه كي تماثله في الشعور والحس.

الحب هو خلق الأرواح من العدم، وشراع القلوب الصادقة، ما دخل الحب قلب إلا حوله من حال إلى حال، لا يمكن أن يكون المتماهي في ملكوت العشق قاس القلب؛ لأن ذلك نقيض العالم الذي يسكنه. الأجساد في عالم العشق لا قيمة لها، والوقت يستحيل قياسه، قد تكون لحظة وتمتد لآخر عُمر العاشقين؛ لأنه لا إكراه في العشق فإذا تماهت الأرواح، واستطالت في تجذرها؛ فهذا يعني أنهم وصلوا إلى الانصهار في عالمهم الخاص.

هذا العالم المتناسق والمتكامل في كل شيء؛ قائم على الحب والمودة والرحمة، وإذا ما اختل هذا الركن الأساسي أضحينا فناء، ذرات متناثرة، لا قيمة لأجسادنا مهما كانت قوية بدون أن يتخللها رشفات من الجنون في العشق. المحب دومًا في حاجة ملحة إلى أن يراجع ويراقب مشاعره، وخلجات قلبه، لا بد أن يكون في اتصال مستمر مع الأرواح التي تملء كينونته بحقيقته. والمحبين لا يقابلون الإساءة بمثلها، فهم لا ينزلقون إلى ذلك. يقابلون كل شيء بالحب؛ فهو دينهم وعقيدتهم ومنهجهم، فهم في حاجة مستمرة للوصول إلى أفق الروح؛ كي ينسلخوا عن أدران الدنيا، وشوائبها، ويصفوا جيدًا. الحب هو الترياق الذي ينشلنا من غياهب الحقد، ويطهرنا ويرقى بنا إلى مصاف الأطهار، تهجره الناس فتصبح الأجساد برداء والقلوب قفلاء والآذان صماء. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المتحابين في الله تعالى لترى غرفهم في الجنة كالكوكب الطالع الشرقي أو الغربي. فيقال من هؤلاء؟ فيقال: هؤلاء المتحابون في الله عز وجل".

المحبين دائمًا موصولة قلوبُهم لا يفترقون ويلتقون أينما شاءوا، لا تفرقهم الأمكنة، ولا قيمة للمسافات بينهم، هم في البعد أقرب، وفي القرب أشد احتدام. في الحب يتمدد الكون ويترامى أمام أنظارهم؛ فلا مكان يحدهم، ولا أرض تحملهم، ولا سماء تظلهم، يفقدون الجاذبية يتداخلون ينصهرون؛ لأنهم في حالة من الانعتاق من الاعتياد. وكما يقول الرافعي في أوراق الورد: "ولن يكون الحبّ القويّ إلّا متوحّشاً لأنّه ثورة الدم الإنساني". العاجزون عن الحب هم مساكين أهل الدنيا، مهما امتلكوا من مقومات السعادة سيبقى ينقصهم الكمال إلى الذروة وسيكونون دومًا في حاجة إلى الشعاع الذي يُضيءُ حياتهم إلى العالم الذي ينشل أرواحهم ليغمسها في أنهار الحب؛ لأن الإنسان لن يصفوا بذاته إلا إذا خلص إلى حقيقته، وأنه مجبول على الحب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.