شعار قسم مدونات

هل التطبيع الخليجي لمواجهة إيران حقاً؟

blogs نتنياهو وقابوس

في الوقت الذي تمر القضية الفلسطينية بمنعطفات حرجة، ودماء الشهداء تسيل أنهاراً على تخوم غزة في مسيرات العودة وكسر الحصار التي دخلت أسبوعها السابع والثلاثين، وعقارب الجوع تنهش أمعاء مليوني مواطن جراء الحصار الغاشم المفروض على القطاع، تهرول دول الخليج العربي زُرافاتٍ ووحداناً لركوب قطار التطبيع مع العدو الصهيوني، وتفتح أرضها وسماءها لإقامة العلاقات السياسية والدبلوماسية، وعقد الصفقات الأمنية، وإشراك الصهاينة في المحافل الرياضية والثقافية التي تنظمها هذه الدول غير آبهين بكل ما ينطلي على هذا التوجه الخطير من محاذير وفجور سياسي لا تخطئه العين.

أنبوبٌ من المياه الآسنة انفجر دفعة واحدة في الشهور الأخيرة في ثلاثِ عواصمَ عربيةٍ لطالما تغنت بدعمها لفلسطين والقدس وحق اللاجئين في العودة إلى مدنهم وقراهم. لكن مع الأسف نجد هذه المرة سلوكاً منافياً للوجدان العربي الذي لم يتنازل في أسوأ أحواله عن الثوابت التي قدم من أجلها الشعب الفلسطيني عشرات آلاف الشهداء على امتداد مسيرته النضالية الطويلة. فما الذي يحدث في الخليج إذن؟! وما هذا التنافس المحموم بين دول الخليج على التطبيع مع عدو العرب الأول والمركزي؟ ومن الذي فتح الباب على مصراعيه لإقامة علاقات سياسية وتجارية وأمنية مع الغدة السرطانية الصهيونية التي ما زالت تحلم بتوسيع كيانها من النيل إلى الفرات؟ وأخيراً هل التطبيع مع إسرائيل باعثه الأساسي مواجهة الخطر الإيراني بالفعل أم أن التاريخ يقول غير ذلك؟!

صور صادمة على وقع أنغام النشيد الوطني الصهيوني "الهتكفا" تهتك ستر النظام العربي والسباق الأهوج والأرعن لدول الخليج التي باتت تعتبر إسرائيل قوة إقليمية فارقة لا مناص من قبولها والتطبيع معها وخطب ودها. على ألحان عزف "الهتكفا" الذي يدعو الى ألف عام من السيطرة على فلسطين والشرق، وقطع رؤوس أعداء إسرائيل في مصر والعراق وبابل وكنعان بالرماح وإراقة دمائهم، تستقبل الإمارات وزيرة الثقافة الإسرائيلية برفقة وفد بلادها المشارك في بطولة الجودو وتتويج أحدهم بالمدالية الذهبية، ودخولها المستفز إلى جامع الشيخ زايد الكبير، مروراً باستضافة قطر فريقاً رياضياً صهيونياً ضمن فعاليات بطولة العالم للجمباز التي تنظمها الدوحة، وصولاً إلى الانتكاسة السياسية والأخلاقية المشينة بهبوط طائرة المشؤوم "بنيمين نتنياهو" ورئيس جهاز الموساد في مسقط وحفاوة الاستقبال التي قدمها "ابن تيمور" لقاتل أهله وذويه، وإشادة التلفزيون الرسمي العماني بنتنياهو، وإسداء عظيم المدح والتبجيل له، تحت ذريعة تقريب وجهات النظر بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ودفع عملية السلام للأمام.

التقارب بين السعودية وإسرائيل بدأ بإلحاح سعودي على طرح مسألة التطبيع مع اسرائيل مقابل موافقة الأخيرة على مبادرة السلام السعودية عام 2002 التي تبنتها جامعة الدول العربية في قمة بيروت

وفي خلفية المشهد القاتم السعودية حاضنة العالم الإسلامي وقبلة المسلمين التي تلهث قياداتها للتطبيع مع إسرائيل، وعقد الصفقات الأمنية والدفاعية معها، وتنظيم الزيارات السياسية التي يقودها "أنور عشقي وتركي الفيصل" وآخرها الزيارة السرية لمحمد بن سلمان لتل ابيب قبل بضعة أشهر. ورغم أن الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ ابن عثيمين وجميع العلماء في المملكة قد حرموا على التأبيد الصلح أو التطبيع الدائم مع الصهاينة، وتملكيهم أراضي المسلمين تملكياً أبدياً، وأجازوا فقط الهدنة أو المعاهدة المؤقتة التي لا يتنازل ولي الأمر بموجبها عن أراضي المسلمين؛ تحضيراً لاستردادها عند قوة الشوكة والقدرة على النفير، إلا أن السعودية تظهر اليوم كركيزة أساسية وعراب التطبيع الخليجي الذي مهد الطريق لمزيد من الغرام السياسي والعلاقات الحميمية والمنزلقات الخطيرة لباقي الدول الخليجية على حساب حركات المقاومة الفلسطينية والعربية.

وتكشف بعض الوثائق السرية المسربة المستور عن اللقاءات السرية بين السعودية وإسرائيل، وكانت أولى تلك الخطوات ما قدمه الملك عبد العزيز آل سعود في "مؤتمر العقير" عام 1922 عندما كتب تعهداً كتابياً لبرسي كوكس يقر فيه بأنه: (لا يمانع من إعطاء فلسطين للمساكين اليهود أو غيرهم كما تراه بريطانيا التي لا يخرج عن رأيها حتى تصيح الساعة). وقد لعب الملك عبد العزيز وبعض القيادات العربية دوراً بارزاً في إحباط ثورة البراق عام 1929، وتصريح مستشاره الخاص "حافظ وهبة" بأن عبد العزيز يعتبر فلسطين للديانات السماوية الثلاث، وخذلان الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936. كما وافق الملك عبد العزيز في تموز 1937 على توصيات لجنة «بيل» الملكية البريطانية التي أقرّت تقسيم فلسطين، ولم يسجل له أي موقف لنصرة الشعب الفلسطيني في نكبة 1948.

وتظهر وثائق موقع "ويكيليكس" المسربة، أن اللواء ركن "نايف بن أحمد بن عبد العزيز"، المتخصص في مجالات العمليات الخاصة والحرب الإلكترونية قد كتب في منتصف 2012 مقالاً في إحدى المجلات التابعة للقوات المشتركة الأمريكية، تحدث فيه بإيجابية عن إسرائيل وعن ضرورة تقوية علاقات بلاده معها. وقد لاقى هذا المقال استحساناً كبيراً في الأوساط السياسية والفكرية والإعلامية الإسرائيلية، واعتبرته مغازلة سعودية لخطب ود إسرائيل والتقارب معها. وتكشف الوثائق المسربة أيضاً أن التقارب بين السعودية وإسرائيل بدأ بإلحاح سعودي على طرح مسألة التطبيع مع اسرائيل مقابل موافقة الأخيرة على مبادرة السلام السعودية عام 2002 التي تبنتها جامعة الدول العربية في قمة بيروت في العام نفسه، واعتبرها "شارون" لا تساوي الحبر الذي كتبت به.

 

وتظهر إحدى البرقيات المؤرخة بـ 27 أبريل 2005، والمرسلة من وكيل وزارة الخارجية للشؤون الاقتصادية والثقافية، إلى وزير الخارجية السعودي، حجم التطبيع الذي وصلت إليه السعودية مع إسرائيل. وبحسب البرقية فإن وكيل وزارة الخارجية السعودية أشار إلى قرار مجلس الوزراء السعودي رقم (5) المؤرخ بـ 13 يونيو 1995 الخاص بإيقاف مقاطعة إسرائيل من الدرجتين الثانية والثالثة، والاكتفاء فقط بالدرجة الأولى، وهي التي تعود مليكتها بالكامل لتجار من إسرائيل.

ومع ما يعرضه المؤرخون وما تقدمه الوثائق من مواقف مخيبة، يبدو أن الملك عبد العزيز كانت لديه ثقة مطلقةٌ بحكومة الانتداب وقدرتها على تحقيق التوازن النسبي بين العرب واليهود، ورغبته في التساوق مع بريطانيا نكاية بخصمه اللدود نجل شريف مكة "عبد الله بن الحسين"، ومحاولة الكثير من الوسطاء إقناعه بأن لدى اليهود نفوذاً سياسياً واسعاً في العالم، وثروة اقتصادية هائلة يمكن للعرب الاستفادة منها. يبدو أن هنالك دفعاً متعمداً ومدروساً في الوقت الراهن لتوسيع نفوذ إيران في المنطقة العربية على حساب الكتلة السنية المفككة والمتناحرة فيما بينها، وذلك لخلق تحالف فعلي بين الدول السنية وإسرائيل على قاعدة العداء المشترك لإيران، والثورة الإسلامية التي تؤمن بنظرية تصدير الثورة والعداء للجوار العربي.

 

لا تصدعوا رؤوسنا بفزاعة إيران لتبرير هذا الفعل الشنيع؛ فجذور التطبيع واللقاءات السرية سابقة على الثورة الإيرانية بعشرات السنين بل قبل نكبة فلسطين!
لا تصدعوا رؤوسنا بفزاعة إيران لتبرير هذا الفعل الشنيع؛ فجذور التطبيع واللقاءات السرية سابقة على الثورة الإيرانية بعشرات السنين بل قبل نكبة فلسطين!
 

من الواضح أن دول الخليج اختارت أن تواجه التمدد الإيراني المتسارع في الأونة الأخيرة من خلال التصالح العلني مع إسرائيل لضرب النظام الإيراني مستفيدين من التفوق الإسرائيلي سياسياً وعسكرياً، واتساع نفوذها في الغرب والولايات المتحدة الأمريكية التي لن تجد مناصاً في النهاية من الانصياع للتحالف الخليجي الإسرائيلي، وهذا ما حدث بالفعل بانسحاب إدارة ترامب الأحادي من اتفاقية النووي، وإعادة فرض رزمة من العقوبات على الصادرات الإيرانية؛ سيما النفط.

 

وبذلك تضع إسرائيل نهاية أبدية للخطر القادم إليها من البيئة العربية، وتشعر بحالة من الاستقرار والاسترخاء الاستراتيجي، وتشغل الساحة العربية بمواجهة جديدة لا تكون طرفاً مباشراً فيها، وتتهرب من أي استحقاقٍ سياسيٍ وقانونيٍ لمبادرة السلام العربية التي تقدم التطبيع الشامل مع إسرائيل مقابل انسحابها من جميع الأرض العربية المحتلة في الخامس من حزيران عام 1967، والذي لم يتحقق ولن يتحقق طالما أن العرب فتحوا ديارهم لإسرائيل بالمجان.

يا حيف! لحظة بائسة من الهوان الخليجي، وتطبيعٌ رخيصٌ مع سفاكي دماء محمد الدرة بدلاً من نصرة حركات المقاومة السنية، في حين تقدم إيران كل الدعم لحركات المقاومة الشيعية! أروني هل قدمت هذه الدول رصاصةً واحدة لمواجهة العدو الإسرائيلي؟ لا تصدعوا رؤوسنا بفزاعة إيران لتبرير هذا الفعل الشنيع؛ فجذور التطبيع واللقاءات السرية سابقة على الثورة الإيرانية بعشرات السنين بل قبل نكبة فلسطين!

يا ترى هل فكرت دول الخليج بمخرج آخر لمواجهة الخطر الإيراني غير التطبيع مع اسرائيل؟! للأسف كان بوسع دول الخليج التحالف مع جماعة الإخوان المسلمين في مصر، والعدالة والتنمية في تركيا السنية لمواجهة التمدد الإيراني الشيعي، ومع ذلك آثرت الكثير من هذه الدول وعلى رأسها السعودية إسقاط "محمد مرسي" في مصر، والانقلاب على "أردوغان"، وهرولت للتقارب والتطبيع مع تل أبيب. دعونا نعترف أمام ضمائرنا والتاريخ، هل التنافس الخليجي للتطبيع مع إسرائيل لمواجهة إيران حقاً! أم لتوظيفه في صراعاتنا البينية وخلافتنا الإقليمية ونزاعاتنا على المحاور والنفوذ؟!